إندونيسيا .. حياد سياسي وراء قوة اقتصادية صاعدة
شهدت إندونيسيا خلال الأعوام الأخيرة دينامية سياسية وتطورا اقتصاديا، مهدا أمامها الطريق لتصبح القوة الاقتصادية الأولى بجنوب شرق آسيا، والاقتصاد الرابع خلف عمالقة آسيا، الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وصاحبة المركز الـ16 في أقوى الاقتصادات في العالم، وذهب خبراء معهد ماكينزي العالمي إلى ترشيحها، وفق شروط معينة، لتكون سابع أكبر اقتصاد في العالم بدلا من بريطانيا بحلول 2030.
أرض جزر الهند، معنى التسمية باللغة المحلية، أكبر أرخبيل جزر في العالم، يقع في منطقة استراتيجية تمتد على ما يعادل 13677 جزيرة، منها 6044 مأهولة بالسكان، تنتشر على طول المحيطين الهندي والهادئ، وسط عديد من الممرات البحرية الحيوية، بتعداد سكاني يتعدى 277 مليون نسمة، أغلبهم مسلمون من عرقية الملايو، بوأها المركز الرابع خلف الهند والصين والولايات المتحدة، في قائمة أكبر الديموغرافيات في العالم.
موارد طبيعية وبشرية، فضلا عن الموقع الاستراتيجي وعناصر أخرى قوامها الإرادة السياسية والشعبية والتخطيط الجيد.. معطيات امتزجت في التجربة الإندونيسية الصاعدة، حتى صارت إحدى القلاع الاقتصادية في الديمقراطيات الآسيوية التي تحاول الولايات المتحدة والصين استمالتها، في المعركة الجيواستراتيجية المتصاعدة بين العملاقين في المنطقة. صراع استثمره جاكرتا بذكاء، فاغتنمت ما يجود به من شراكة وتعاون وفرص استثمارية لتوجيه سفينتها بدل الانسياق مع رياح تهب من بكين أو أخرى قادمة من واشنطن.
الحياد السياسي وفاء لعدم الانحياز
أواسط القرن الماضي، كانت إندونيسيا من الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز، اعتراضا على فكرة تقسيم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين: شرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وغربي بزعامة الولايات المتحدة، لدرجة أنها احتضنت أولى قمم هذه الحركة بمدينة باندونج، رابع أكبر المدن في جزيرة جاوة، عام 1955. إرث سياسي عملت جاكارتا على استعادته، مع احتدام الصراع من جديد بين أقطاب العالم الكبرى، فاختارت لنفسها البقاء على مسافة واحدة من الجميع.
نجحت جاكرتا في اتخاذ مسار وسط بين واشنطن وبكين، إذ على الرغم من قلقها وريبتها من التحركات الصينية في منطقتها الاقتصادية في بحر الصين الجنوبي، كما جاء على لسان وزير دفاعها على هامش زيارة نظيره الأمريكي لإندونيسيا، فذلك لا يعني بأي حال من الأحوال مناصبة العداء للصين التي تبقى صديقة، حسب المسؤول الإندونيسي دائما، فالبلدان الجاران طورا أساليب خاصة لتدبير الخلافات بينهما كيفما كانت طبيعتها.
وتأكد الحياد مجددا عند تعاطي رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، في قمتها الأخيرة بإندونيسيا، سبتمبر الماضي، بتمثيلية للصين وروسيا والولايات المتحدة، للصراع الدولي المتزايد بشأن المنطقة. ففي ختام أشغال القمة، أعلنت ممثلة الدبلوماسية الإندونيسية عن تكثيف المحادثات مع الصين ودول أخرى من تجمع الآسيان، لتخفيف التوترات المتصاعدة في الممرات الاستراتيجية بالمنطقة، وذلك لإخراج مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي.
مواقف تبدو انحيازا ضمنيا لجاكرتا نحو بكين، لكن الواقع خلاف ذلك. فإندونيسيا من البلدان التي راج اسمها بقوة أخيرا للانضمام إلى مجموعة البريكس، باعتباره التجمع المدافع عن "الجنوب العالمي". قبل أن تقرر قيادة البلاد، في شخص الرئيس ويدودو، رفض دعوة الالتحاق بـ"النادي الصيني"، معلقا على الحدث بقوله: "إجابتي لم تكن لا، بل ليس الآن". مضيفا توضيحا لموقفه "لا نحتاج إلى استعجال الأمور عندما يتعين علينا إجراء حسابات دقيقة للغاية، بالنسبة لي، مفتاح العلاقة الجيدة هو الثقة".
اختيار الحياد بدل الاصطفاف، انعكس بشكل إيجابي على الداخل الإندونيسي، حيث حضرت الصين بكثافة في الاستثمار الأجنبي بالبلد، ما شكل دفعة قوية لتطوير البنية التحتية، التي تراهن عليها الحكومة كثيرا، فحتى متم الربع الثالث من العام الماضي استثمرت الصين أكثر من ستة مليارات دولار في البلد، بما في ذلك مشروع القطار الفائق السرعة. كل ذلك لم ينفر الولايات المتحدة، حيث قدرت الاستثمارات الأمريكية في البلاد، عن الفترة نفسها، بما قدره مليارا دولار. بهذا تجني جاكرتا ثمار سياسة الحياد تجاه الطرفين، بأسلوب ناعم يساعد على تعزيز مكانة وتنافسية الاقتصاد الإندونيسي.
الانتصار الداخلي للتنمية والديمقراطية
انتقلت إندونيسيا من اقتصاد زراعي في ستينيات القرن الـ20 إلى اقتصاد صناعي خدماتي في بداية التسعينيات. وشرعت بشكل تدريجي في اكتشاف قدراتها وترجمتها في سياسات تعزز مكانة البلاد إقليميا وقاريا وعالميا. فعلى سبيل المثال أحسن استغلال الصراع الأمريكي الصيني المتنامي، في الأعوام الأخيرة، بالعمل على تأهيل بيئة مناخ الأعمال المحلية (حوافز ضريبية، تسهيلات في استقدام العمالة، وإعفاءات من رسوم الاستيراد والإنتاج..)، حتى تكون مستعدة لاحتضان الاستثمارات الغربية في الصين، مع توالي الضغوط الأمريكية على الشركات من أجل الابتعاد عن الأسواق الصينية.
وضعت لذلك استراتيجية كبرى، ترمي تطوير المناطق الاقتصادية الخاصة في البلاد، التي تقدر بـ19 منطقة اقتصادية خاصة، منها 12 منطقة قيد التشغيل، وذلك قصد استقطاب الاستثمارات الأجنبية في مجالات متعددة، فضلا عن استثمارات ضخمة تجاوزت 400 مليار دولار في البنية التحتية، خلال أربعة أعوام فقط (2020-2024)، بزيادة قدرها 20 في المائة عن معدل الإنفاق عن الأعوام الأربعة السابقة. ما يعني أن جاكرتا مصممة على بلوغ تحقيق طموحاتها، مستغلة الاستقرار الديمقراطي بفضل صلابة المؤسسات في البلاد، منذ نهاية الحقبة السوداء في تسعينيات القرن الماضي.
اتبعت إندونيسيا إدارة سياسية حازمة أعطت قوة أكبر لاقتصادها، فعلى سبيل المثال، استطاعت بفضل قرارها حظر تصدير خام النيكل، عام 2020، واستقدام شركات عالمية من الصين (تسينجشان) وكوريا الجنوبية (إل جي) والبرازيل (فال) لإقامة مصانع على الأراضي الإندونيسية متى أرادت الوصول إلى احتياطيات البلد الوفير من هذا المعدن. وبلغ الرهان أخيرا مداه، بعد قرار الحكومة الإندونيسية تغيير عاصمة البلاد، ما عده كثيرون محاولة لتغيير الجغرافيا الاقتصادية للبلاد بأسره.
تقع جاكرتا، العاصمة الحالية ذات تعداد سكاني يقدر بنحو عشرة ملايين نسمة، في جزيرة جاوة التي يقطنها 60 في المائة من سكان البلاد، ما يجعلها من أشد الأماكن ازدحاما في العالم، بجودة هواء سيئة للغاية، فضلا عن غرقها المستمر بمعدل 15 في المائة كل عام، مع توقعات بغرق 2/3 منها بحلول منتصف القرن الحالي، وأفادت تقارير خبراء أن الدولة ملزمة، متى رغبت في إنقاذها، بصرف نحو 40 مليار دولار خلال عقد واحد.
بدل ترقيع جاكارتا فضل المسؤولون الإندونيسيون الاستثمار في المستقبل بتشييد عاصمة جديدة "نوسانتارا"، على بعد أكثر من ألف كيلومتر من العاصمة الحالية، في جزيرة بورنيو الأقل ازدحاما بالبلد، بتكلفة أولية حددت في 33 مليار دولار، ضمن مشروع ضخم باسم "رؤية إندونيسيا 2045" أعلن رسميا أواسط عام 2019، تتطلع إندونيسيا بموجبه لتكون خامس أكبر اقتصاد في العالم.
رغم قساوة الجغرافيا وعواصف الطبيعة المستمرة، استطاعت إندونيسيا أن تشق الطريق بثبات لتنافس وعن جدارة اقتصادات كبرى في العالم، بفضل نجاحها في اقتناص الفرص وقدرتها على تصريف كل شيء مكاسب خدمة للمصالح العامة في البلد. تبقى المحطة الانتخابية التي تستعد إندونيسيا لتنظيمها فبراير المقبل، فيصلا في تحديد قدرة البلد على مواصلة التحدي أم استسلاما للمعارك الصغرى التي تبعد الدول على الأحلام الكبرى؟.