الغلو في الانتقام .. الأبرياء الضحايا
وأنا أنظر إلى العالم حولنا أرى تفشيا لظاهرة الغلو. وما هو الغلو يا ترى؟ معجميا، الغلو معناه الإفراط ومجاوزة الحد.
وأرى أيضا أن عالمنا هذا مبني على تجازو الحد في كل منحى تقريبا. في الاقتصاد مثلا، هناك تجاوز للحد في تراكم الثروة وتكديسها. في الحرمان، هناك تجاوز للحد في حرمان الناس من الثروة.
وفي التمتع بمباهج الحياة، هناك غلو في الاستهلاك، وهناك حرمان من أبسط مقومات الحياة. وهنا تحضرني مباهج الحياة في السويد هذه الأيام والناس على أبواب الاحتفاء بأعياد الميلاد ورأس العام الجديد، وما يرافق ذلك من غلو في شراء الهدايا إلى درجة أن البلديات تشتكي من عدم مقدرتها على جمع نفايات الأغلفة والكارتونات والشرائط الملونة التي تستخدم في تغليفها.
في إمكاننا إيراد أمثلة كثيرة تظهر كيف أننا لا نفرط وحسب بل نتجاوز الحد في اقتناء الماديات، وننسى أن أي غلو في الاستحواذ على الأشياء أيا كانت لا بد أن يأتي على حساب الآخرين.
لا حاجة إلى الإكثار من الأمثلة في مضمار الماديات إن كانت مأكلا أو ملبسا أو استجماما أو غيره، لأن الغلو في اقتنائها أو التمتع بها أو حتى إظهار أننا مفرطون في التلذذ بها صار أمرا واقعا نحسه، أي نشاهده ونقرأ عنه من خلال أجهزتنا الخوارزمية التي تميط اللثام تقريبا عن أي مظاهر خفية كانت.
لا تنحصر ظاهرة الغلو على الماديات. الفكر الذي نحمله الذي يؤسس للأطر الاجتماعية والثقافية والخطابية التي نسلكها يقع في الأغلب تحت طائلة الغلو. هناك كثير من الفكر يتميز بالغلو، أي: التعصب، حيث يرى صاحبه أن ما يحمله من ثقافة وميل وعرق ولون أو غيره أرقى وأسمى وأرفع شأنا من أي فكر آخر. وهذا ما يجعله يتصرف وكأنه الأفضل والأسمى، ويمنح لنفسه الحق في الإفراط والغلو في الانتقام والاستحواذ على ما للآخرين والتصرف برعونة مشفوعة بعنف مفرط لمصادرة ما ليس له.
الغلو الفكري، كما الشأن مع الغلو في الماديات، خطر كبير على البشرية، نلحظ آثاره المدمرة اليوم وفي مناطق شتى من العالم، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط وبالذات في إطار الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
ربما لم يشاهد أي أمرئ الصور المرعبة للدمار والقتل العشوائي الإسرائيلي إلا وأبدى يأسا وإحباطا وأبدى في الوقت نفسه رغبة جامحة لإيقاف العنف المفرط هذا وإيجاد حل للأسباب والدوافع التي تطلق عنانه بين الفينة والأخرى.
نحن ننسى أن مشكلة الغلو أعمق من البعد الإنساني في دواخلنا، وننسى أن الانتقام المفرط لا يقتل الذي ننتقم منه وحسب بل يقتلنا ويضربنا في الصميم أيضا. ننسى أننا كلما التجأنا إلى الغلو الفكري والتعصب استنادا إلى مقاطع مجتزأة مما نراه مقدسا من نص لتبرير الميل صوب الانتقام، نكون بذلك قد عرينا أنفسنا وكشفنا عورتنا وبرهنا أننا أقرب إلى الغريزة الحيوانية فينا من الإنسانية.
أو ليس هذا ما يجري من غلو مفرط في الانتقام من غزة، حيث الانتقام ليس موجها ضد المسلحين ومنظماتهم، بل السكان والناس أجمعين من الأطفال والنساء والشيوخ مع الحجر الذي بنوا به بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم وحتى التراب الذي فرشوا عليه سجادة صلاتهم.
حجم الانتقام الإسرائيلي الذي نحن شهود له غير مسبوق في التاريخ المعاصر إن أخذنا حجم السكان في قطاع صغير مثل قطاع غزة الذي هو أكثر كثافة سكانية في العالم وعدد الضحايا ومقادير الدمار.
يخطئ كل مفرط في الغلو أو كل قاتل للأطفال والأبرياء أيا كانوا في اتكائهم على نصوص كتابية لشرعنة تجاوز الحد في الانتقام. لكن هذا ما حدث ويحدث في إسرائيل حيث إن الاتكاء على نصوص كتابية لتبرير الغلو المفرط في الانتقام صار ظاهرة سياسية، ولن أغوص في إيراد الأمثلة لأنها كثيرة وتأتي من مستويات عديدة.
الغلو في الانتقام الذي نشاهده في غزة الذي صار يؤرق كثيرا منا ستكون له تبعات خطيرة على المنتقم -بكسر القاف.
الذي يغوص في وحل الانتقام يزيد من طينه بلة وسرعان ما يفقد المقدرة على المشي وسرعان ما يخنقه الطين الذي بلله انتقامه المفرط.
لا يتبجحن أي منا بغلوه وإفراطه وتجاوزه الحد في امتلاكه القوة والمال والعسكر. التاريخ القديم والحديث يبرهنان أن الذين يفرطون في الانتقام وذلك بإطلاق العنان لما يملكونه من قوة غاشمة لا بد أن ترتد أعمالهم وبالا.
ألم يكن الغلو في الانتقام بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية السبب وراء الفشل المريع لا بل الهزيمة النكراء لكل الحملات العسكرية والغزوات في العالمين العربي والإسلامي؟
اقرأ أي كتيب عسكري منهجي، وسيقول لك إن الانتقام المفرط الذي يكون الأبرياء ضحية له، كما هو الشأن في غزة، ستكون له تبعات خطيرة على المنتقم -بكسر القاف.
ستكون التبعات أكثر خطورة إن كان الانتقام من سكان في الأساس يشعرون بمظلومية مسببها وسببها الذي ينتقم منهم. التاريخ يعلمنا درسا لا مفر منه: كلما أفرط الإنسان في الانتقام قرب من نهايته وليس نهاية الذين ينتقم منهم.