دول تصد الأبواب في وجه من بنوا أمجادها وأخرى ترحب
استطاعت دول الاتحاد الأوروبي، الأربعاء الماضي، التوافق على اتفاق جديد بشأن الهجرة، تحت مسمى "الميثاق الجديد بشأن الهجرة واللجوء"، يدخل حيز التنفيذ مطلع العام المقبل، بعد محادثات طويلة وشاقة، فالميثاق الذي طرحته المفوضية الأوروبية خريف عام 2020، جاء بعد فشل محاولة 2016 في أعقاب أزمة اللاجئين، استمر النقاش بشأنه نحو ثلاثة أعوام، قبل تحقيق ما وصفته إيلفا يوهانسون المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية بـ"اللحظة التاريخية"، لما يقضي به من قواعد تسعى للحد من أعداد الوافدين، فضلا عن المساواة في التكاليف والتوازن في استضافة المهاجرين.
من مفارقات الميثاق الأوروبي الجديد أن ينعقد الإجماع حوله، بعد مرور يومين على اليوم العالمي للمهاجرين، الذي يصادف 18 ديسمبر كل عام. اعتمدت منظمة الأمم المتحدة هذا اليوم رسميا بدءا من عام 2000، لارتباطه في الأجندة الأممية بحدث اعتماد اتفاقية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، عام 1990، التي مثلت حينها؛ أي في آخر عقدين من القرن الماضي، قفزة نوعية إلى الأمام - بالنظر لما شهدته حقبة الثمانينيات من تضييق وتشدد أمني تجاه قضايا الهجرة - في مسار الاعتراف بهذه الشريحة الآخذة في التزايد، عاما بعد آخر، وبما تشكله أعمالها من قيمة مضافة، في المجتمعات المضيفة لها.
ما كانت للقارة العجوز التي أجمعت، كما جاء على لسان داميان كاريم، النائب بالبرلمان الأوروبي، على "ميثاق معيب لأجمل قيم أوروبا... سنمول جدرانا وأسلاكا شائكة وأنظمة حماية في كل أنحاء أوروبا"، أن تزدهر مجددا، بعد أن دمرتها الحربان العالميتان، الأولى والثانية، لولا المهاجرين وقوة عملهم. من مكر التاريخ أن توصد الأبواب اليوم في وجه من كانوا بناة المجد بالأمس، فدول الاتحاد الأوروبي ماضية في تعلية جدران قلعتها، وتحصين حدودها بشتى الطرق، من ترسانة تشريعية وعدة حربية وعتاد إلكتروني، ضد موجات المهاجرين المتدفقة عليها من جهتي الجنوب والشرق.
فأحدث الأرقام التي كشفت عنها الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس"، مطلع الشهر الجاري، تؤكد تسجيل أكثر من 42 ألف شخص، خلال أربعة أشهر، يسعون إلى بلوغ الشواطئ الأوروبية عبر إيطاليا، ما يمثل ارتفاعا، بنسبة 292 في المائة، بالمقارنة بـالفترة نفسها من العام الماضي. وتحذر ذات المؤسسة من تحطيم أرقام قياسية جديدة في أعداد المهاجرين، بطرق غير قانونية، المدفوعين بأسباب مثل الفقر وتغير المناخ وليس الصراع.
عالميا، ووفقا لتقارير المنظمة العالمية للهجرة، شهدت الظاهرة زيادة لافتة في الأعوام الأخيرة، فعدد المهاجرين الدوليين؛ أي الأشخاص المقيمين في بلد غير بلدهم الأصلي، ارتفع من 258 مليون مهاجر عام 2017، إلى ما يناهز 281 ميلون شخص في 2022، ما يمثل تقريبا نسبة 3.5 في المائة من سكان العالم. يتوزع هؤلاء على قارات العالم بنسب تراوح ما بين 32 في المائة بآسيا، و30 في المائة بأوروبا، و25 في المائة في الأمريكيتين، و10 في المائة في إفريقيا، و3 في المائة في البلدان الجزرية.
أرقام تجعل التهويل الغربي من فزاعة الهجرة، التي تحولت إلى ورقة انتخابية رابحة بيد قوى اليمين واليمين المتطرف محل شك وريبة.
تزايدت حدة هذه الشكوك أخيرا، بعد افتضاح ازدواجية معايير الأوروبيين أمام الأشهاد، عقب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، فما حظي به الأوكرانيون الفارون من ويلات الحرب من حسن تعامل واهتمام وعناية غير ما لقيه غيرهم من دول أخرى (ليبيا، السودان، سوريا...) مزقتها الحروب والمجاعات، فبدا التمييز واضحا بإظهار مختلف أوجه التضامن والدعم والمساندة للأوكرانيين، خلافا لباقي الجنسيات التي تواجه بكافة الوسائل المشروعة وحتى غير المشروعية أحيانا، للحيلولة دون تخطيها حدود الاتحاد الأوروبي، لدرجة تحول معها البحر الأبيض المتوسط إلى إحدى الطرق الأكثر فتكا بالمهاجرين في العالم.
مهما حاول الأوروبيون طمس الحقائق تأبى إلا أن تظهر ساطعة، كتلك التي سبق أن أكدها، ذات لقاء إذاعي، أوليفيه دوسبوت وزير العمل الفرنسي، حين اعترف علانية بأن "بعض المهن كادت تختفي لولا وجود العمال المهاجرين الذين يشتغلون فيها حاليا"، بقية البلدان ليست أفضل حالا من فرنسا، فقد بات مستحيلا اليوم، خاصة في سوق العمل، أن نتخيل يوما واحدا دون وجود عمال مهاجرين، لأنهم باختصار شديد باتوا ركيزة من ركائز الاقتصاد في العالم.
حقيقة تعاملت معها دول بسلاسة بعيدا عن التعصب والتشنج، كما هي الحال مع الحكومة الفيدرالية الكندية التي كشفت عن خطة لاستقبال 500 ألف مهاجر سنويا، بدءا من هذا العام حتى 2025، ما يعني في المحصلة زيادة 1.5 مليون مهاجر، إلى ساكنة كندا، في غضون ثلاثة أعوام.
رقم مثقل بالدلالات من الناحية الديموغرافية، فهو أيسر الطرق نحو تغيير الهرم السكاني في البلد بأقصى سرعة، وأكثرها نجاعة وانعكاسا على الاقتصاد الوطني للبلد.
ترى كندا استقبال المهاجرين بمنزلة استثمار يضمن حيوية الدولة، فاليوم تشكل نسبة الكنديين الذين وصلوا إلى البلاد بوصفهم مهاجرين زهاء 1 /4 عدد السكان، وبين كل أربعة مواطنين كنديين هناك واحد قدم إلى البلاد كمهاجر، وتبقى هذه النسبة الأعلى من نوعها بين الدول الأعضاء في مجموعة السبع، فقد تجاوزت حتى الولايات المتحدة التي توصف بأنها بوتقة العالم في انصهار الشعوب، والوجهة الأكثر شعبية للهجرة في العالم.
أحيانا، يحدث أن تنقلب الآية فيصبح الاستقطاب تصديرا للمهاجرين، كما حدث في نيوزيلندا التي شهدت تحولا غير مسبوق في ملف الهجرة، حيث سجلت لأول مرة رقما سلبيا، بعدما تعدى عدد المغادرين عدد القادمين إلى البلاد. تذهب الهيئة الإحصاء الرسمية، في معرض تفسيرها للمسألة، إلى أن الارتفاع ناجم عن إقبال الشباب، ولا سيما الفئة العمرية 18 و27، على مغادرة البلاد، فتوقعات الحكومة التي كانت عند حدود 50 ألف مغادر ارتفعت إلى 125 ألف مواطن نيوزيلندي.
كانت البشرية، منذ بداياتها الأولى، في حالة حركة دائمة، فالأفراد تنقلوا بحثا عن العمل أو الطعام، وهاجر آخرون للالتحاق بالعائلة أو سعيا وراء مكاسب ذاتية، وانتقل آخرون هربا من الصراع والعنف أو الاضطهاد... وهاجر غيرهم بسبب تغير المناخ وتدهور البيئة وتقلبات الطبيعة، لكل ذلك تحولت الهجرة إلى حق؛ حق معلن لكنه غير مضمون، وهذا أكثر مرارة.