2023 .. عام المساواة في الأزمات
أسدل العالم الستار على عام 2023، لتهدل بآخر يوم من العام أمان عريضة وأحلام كثيرة، راودت الأفراد والحشود أملا في تغيير أوضاع وتحسن أحوال واستقرار أوطان، بعد عام من الرعب والخوف والمآسي التي خلفتها جائحة فيروس كورونا في 2022. عام آخر ينقضي مخلفا أوجاعا وكوارث طبيعة أو نتيجة أياد بشرية، تراخت تداعياتها لتعم مختلف أصقاع العالم، لدرجة أن خبراء لم يترددوا في القول بأن الإنسانية ودعت أحد الأعوام الأكثر دموية في تاريخها.
اهتزت الأرض مرتين، إحداهما في تركيا وسورية في فبراير، والأخرى في المغرب في سبتمبر، مخلفة في حصيلة ثقيلة تعدت 53 ألف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى، وملايين المشردين والمنكوبين. ثم جاءت عاصفة دانيال شمال وشرق ليبيا، التي أودت بحياة 11 ألف قتيل، وشهدت دول عدة كاليونان والبرازيل وغانا والهند وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية والإكوادور والموزمبيق وزامبيا فيضانات مماثلة، وإن كانت أقل شدة من كارثة ليبيا.
أما صوت البنادق فلم يتوقف على مدار العام، إذ كشفت وكالة "بلومبيرج" عن تسجيل 183 صراعا مسلحا إقليميا في العالم، موضحة أنه الرقم الأعلى منذ 30 عاما. ففتيل الحروب ظل مشتعلا في أكثر من رقعة جغرافية، فالحرب الروسية الأوكرانية لم تتوقف، رغم محاولات أكثر من دولة التوسط بين الطرفين لإخمادها، والسودان...). واهتدى الأشقاء في السودان، منذ أبريل، إلى استخدام لغة السلاح لتسوية خلافتهما، فكانت الحصيلة 12 ألف قتيل، وسبعة ملايين نازح. وتشن إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر، حرب إبادة على البشر والشجر والحجر في الأراضي الفلسطينية، في حصيلة ثقيلة تعدت 20 ألف قتيل، دون أي اعتبار أو تفاعل مع الدعوات والمطالب بوقف إطلاق النار.
يتجه الغرب بقيادة الولايات المتحدة نحو خسارة وحدة الصف، داخل المعسكر الغربي، التي استطاعت واشنطن تشكيلها، بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، حتى باتت في وضع أشبه بما كانت عليه زمن الحرب الباردة. لكنها سائرة في طريق خسارة هذا المكسب، بسبب اصطفافها الأعمى وراء الحكومة الإسرائيلية، ضد كل المساعي العالمية لوقف إطلاق النار في فلسطين، إذ وجدت الإدارة الأمريكية نفسها معزولة داخل مجلس الأمن، وبمعية أقلية قليلة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بتصويت دول أوروبية ضد الموقف الأمريكي. ما شكل فرصة مثالية للخصوم لفضح ازدواجية المعايير والفشل الأخلاقي للإدارة الأمريكية.
داخليا، اهتزت الولايات المتحدة بعد مثول الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب أمام القضاء، بعد توجيه الاتهام إليه في أربع قضايا، في محاكمة شدت أنظار العالم إليها، خاصة أنها تتزامن مع مساعي الملياردير للعودة إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024، انتخابات يتوقع أن تدخل في قائمة أهم أحداث العام الجاري، بالنظر إلى قائمة المرشحين لدخول السباق الرئاسي، وما يتصل بهم من ملفات وقضايا قد تقضي على مستقبلهم السياسي.
في المقابل، شهد المعسكر المضاد قفزة نوعية نحو الوحدة، توضح معالم الخريطة الجيوسياسية المقبلة للعالم، بإعلان الخماسي في منظمة بريكس (الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا) عن انضمام ست دول جديدة، لها وزن ثقيل في مسرح الأحداث العالمي، مثل: السعودية وإيران والإمارات ومصر وإثيوبيا والأرجنتين. بذلك يكون هذا التكتل "تجمع التسع الجديد" منافسا حقيقيا لمجموعة السبع الكبار، وقطبا وازنا بمقدوره المناكفة على تقليص وتقويض الهيمنة الغربية على العالم.
خلافا للولايات المتحدة التي فقدت كثيرا من العواصم في أمريكا اللاتينية، في مقدمتها برازيليا بعد عودة اليساري المزعج لولا دا سيفا لرئاسة بلاد السامبا، حرصت الصين على تسجيل حضورها الناعم في مختلف القارة الآسيوية تقريبا، فرعت اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران، وقادت حوارا ثلاثيا مع باكستان وأفغانستان للوساطة بينهما، وفي غمرة النفير الغربي تحتفظ بكين بسفارة في كابول. كما تولت مفاوضات السلام بين الجيش الوطني في ميانمار والمنظمات المسلحة العرقية. بالموازاة سجلت حضورها الخشن في المحيط الهادي، ولا سيما في بحر الصين الجنوبي وفي التايوان.
على ذكر أمريكا الجنوبية، لا تزال التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية العنوان الأبرز في القارة طيلة العام الماضي، فأحدث تقرير يفيد بأنها إحدى أكثر المناطق تفاوتا في العالم، فنحو 10 في المائة من السكان يسيطرون على 77 في المائة من إجمالي الثروة. فضلا عن استمرار انقسام حكومات القارة بين قوى اليمين واليمين المتطرف (الأرجنتين، الشيلي، الأوروغواي، الباراجواي...) وبين زعامات اليسار الشعبي والديمقراطي (البرازيل، نيكاراكوا، فينزويلا، كوبا...).
إفريقيا، استمرت موجة الانقلابات في دول القارة السمراء، فبعد شهر على نجاح انقلاب النيجر في يوليو، حدث انقلاب في الغابون ليصل مجموعها في المنطقة إلى ثمانية انقلابات في غضون ثلاثة أعوام. كانت مرفوقة بنزعة عداء ضد النفود الفرنسي في القارة، فالشعوب الإفريقية ضاقت ذرعا باستغلال ونهب وعنف زمن الاستعمار وحتى بعد الاستقلال. فجاءت لحظة التخلص من الهيمنة الفرنسية، وإن كان الأمر، في نظر مراقبين، مجرد تخل عن هيمنة لمصلحة أخرى، مع تنامي النفود الروسي في القارة دون الحديث عن التجذر الصيني هناك بفضل مشروع الحزام والطريق.
في أوروبا، الانكفاء لم يكن من نصيب فرنسا وحدها فمعظم دول القارة العجوز تعاني أزمات داخلية، بفعل الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، فضلا عن تأثيرها القوي في تقلبات الاقتصاد العالمي. فبين أزمة وأخرى أزمة جديدة تتولد، من تداعيات معضلة التغير المناخي إلى التدفق المستمر لأفواج المهاجرين على القارة من الشرق والجنوب، مرورا بمأزق ارتفاع منسوب التطرف السياسي في أكثر من دولة، فقوى اليمين المتطرف حاضرة في عديد من الحكومات الأوروبية، إيطاليا وهولندا، وتحظى بوزن ثقيل في مؤسسات تشريعية عدة، كما هو الحال في فرنسا مع حزب التجمع الوطني بقيادة ماري لوين، وفي السويد مع حزب ديمقراطيي السويد ثاني قوة سياسية في البلد.
انقضت أيام 2023 تاركة العالم، من أقصاه إلى أقصاه، عائما في بحر الأزمات، فإن كان هناك من توصيف دقيقة لهذا العام، فهو عام المساواة في الأزمات، فلا اعتبار بعد هذا العام لجل التصنيفات المعروفة، فلا العالم المتقدم ولا النامي ولا المتخلف سلم من ويلات وكوارث هذا العام، إلا أقلية من الدول نجحت أن تشكل الاستثناء.