الدول الجزرية .. قبل أن يلتهم المحيط ما بناه الشعب
تمثل الجزر 5 في المائة من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتساهم في التنوع البيولوجي العالمي بنسبة تفوق حجم أراضيها. وتعد دولة جزرية تلك التي تقع كل أراضيها على جزيرة أو مجموعة من الجزر المتفرقة، وتنتشر في جميع قارات ومحيطات العالم، باستثناء أمريكا الجنوبية، علما أن هذه الدول لا تعد جزءا من أي قارة، وإن جرى العرف على إلحاقها بأقرب قارة لها جغرافيا، وبقارات أخرى لدواعي سياسية.
في العالم 58 دولة جزرية، تتمتع 2/3 منها بالعضوية في منظمة الأمم المتحدة، ويقع أكثر من نصفها في منطقة البحر الكاريبي وأوقيانوسيا. أغلبية الدول الجزرية صغيرة، وفي قائمة أصغر 20 دولة في العالم توجد 15 دولة جزرية، بما في ذلك أصغر دولة في العالم خارج القارة الأوروبية، والقصد هنا جمهورية ناورو في وسط المحيط الهادئ. مع استثناء طبعا، فهناك دول جزرية كبيرة من حيث المساحة حتى السكان مثل إندونيسيا ومدغشقر اليابان والفلبين.
تواجه الجزر الصغيرة مجموعة فريدة من التحديات، بسبب صغر حجمها وبعدها الجغرافي. كما تجمعها جملة من القواسم المشتركة، فمثلا تستفيد بطرق مختلفة من علاقتها الاستثنائية بالمحيطات، باستغلال موقعها الاستراتيجي في النظام التجاري العالمي، أو الاعتماد على مواردها البحرية، فمصائد الأسماك في الجزر الصغيرة بالمحيط الهادئ تساهم بأكثر من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن توفيرها الأمن الغذائي لشعوب هذه الدول، فالسمك مصدر أساسي للبروتين الحيواني المستهلك هناك.
وتتمتع هذه الجزر بالوصاية على قرابة 50 منطقة اقتصادية خالصة، ما يمثل نحو 25 في المائة من أكبر هذه المناطق في العالم. وتحتل جمهورية كيريباتي، أحد أكبر الأرخبيلات في المحيط الهادئ الاستوائي، المركز الـ13 في قائمة أكبر المناطق الاقتصادية الخالصة في العالم. وتبلغ المنطقة الاقتصادية لجزر كوك في المياه الإقليمية المحيطة بها، مساحة بحجم دولة الهند.
فيما تشكل السياحة مصدرا حيويا لاقتصادات أغلب الدول الجزرية الصغيرة، فعائدات القطاع تمثل أزيد من 30 في المائة من إجمالي الصادرات. فمنطقة البحر الكاريبي وحدها تستقبل سنويا أكثر من 21 مليون زائر، ما يجعلها ثالث أكبر الدول استقبالا للزوار في القارة الأمريكية، بعد الولايات المتحدة والمكسيك، لو كانت دولة واحدة.
تتميز هذه الدول بأنظمتها الإيكولوجية الفريدة من غابات جبلية وأراض رطبة ومياه عذبة، وهلم جرا من المواد الخام التي تدعم أنماط عيش صديقة للبيئة، فضلا عن تنوعها البيولوجي، فهي موطن 20 في المائة من أنواع الطيور والزواحف والنباتات في العالم، بما في ذلك أكثر من 40 في المائة من الكائنات النادرة والسلالات المهددة بالانقراض في العالم. وتحتفظ بنحو 14,5 في المائة من مرجان العالم، وبثالث أطول حاجز مرجاني في العالم في جزر البهاماس.
معطيات دفعت الأمم المتحدة إلى الاعتراف، مطلع عقد التسعينيات، بالدول الجزرية الصغيرة النامية، البالغ عددها 39 دولة، بتعداد سكاني يناهز 65 مليون نسمة، كمجموعة مستقلة تواجه ضعفا اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، في قمة الأرض بمدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل، عام 1992. بعدما تبين أنها توجد في الخطوط الأمامية لآثار تغير المناخ المدمرة، فتقرير البرنامج الإنمائي يفيد بأنها خسرت، خلال نصف قرن، 153 مليار دولار أمريكي، على الرغم من كونها صاحبة أصغر بصمة كربونية، إذ لا تتعدى مساهمتها 1 في المائة من غازات الاحتباس الحراري.
من جهتها، وإدراكا لحجم المخاطر المحدقة بها، عملت دول في منطقة البحر الكاريبي من أجل تحقيق الحياد المناخي، باستخدام عدة أساليب من جملتها الطاقة المتجددة، لكونها على خطوط التماس مع تداعيات المعضلة المناخية، فارتفاع بمقدار 50 سنتيمترا في مستوى سطح البحر، سيؤدي إلى فقدان عدة دول لنسبة 60 في المائة من شواطئها، وتحول زيادة بمقدار متر واحدا دولا بأكملها إلى جزء من التاريخ.
أخيرا، وبالتحديد في سبتمبر الماضي، تقدم تسع دول جزرية (أنتيجوا وباربودا، البهاماس، توفالو، نيوي، بالاو، سانت كيتس ونيفيس، سانت لوسيا، سانت فنسنت، وجزر جرينادين) بطلب إلى محكمة تابعة للأمم المتحدة مختصة بقانون البحار في هامبورج، لحماية محيطات العالم من التداعيات الكارثية للتغير المناخي التي تهدد وجودها. تحدث رئيس وزراء أنتيجوا وباربودا، أحد أعضاء الوفد، عن هذه الخطوة واصفيا إياها بـ"الفصل الافتتاحي في النضال لتغيير سلوك المجتمع الدولي من خلال توضيح التزام الدول بحماية البيئة البحرية"، مضيفا في سياق التأكيد على حجم الخطر بأن "الوقت حان للحديث عن واجبات ملزمة قانونا بدلا من وعود جوفاء لا يتم الوفاء بها".
من جانبه، خاطب رئيس وزراء دولة توفالو أعضاء المحكمة، قائلا: "بضعة أعوام فقط، هذا كل ما لدينا قبل أن يلتهم المحيط كل ما بناه شعبي على مدى قرون". واسترسل فيما يشبه طلب توضيحات من المحكمة "إذا كان ليس لدى القانون الدولي ما يقوله بشأن غرق بلد بأكمله تحت الماء.. فما هو الغرض الذي يخدمه إذن؟".
إذا كان التاريخ يثبت ويمحو الدول، فالجغرافيا تعيد ترتيب أولوياتها، فهذه الدول الجزرية التي لا تذكر عادة إلا في أحاديث السياحة والأسفار، باتت تتسلل إلى الأضواء بعدما استشعرت بأن الأمن القومي محل تهديد حقيقيا، فالأمن المناخي هو الأمن القومي والاقتصادي لا بل إنه وباختصار رفاهية هذه الشعوب.