نهاية تقترب .. الابتكار لم يعد حصريا
منذ العودة من جائحة كورونا والمشهد الاقتصادي العالمي يزيد تعقيدا وتغييرا، ويمكن أن تقرأ بسهولة تنبؤات عن نهاية شركات عملاقة، وهجوم على العولمة، ونشأة تكتلات اقتصادية جديدة، وتساؤلات عن مكانة الدولار كعملة عالمية، ومن ذلك أيضا حديث لا يكاد تخلو منه صحيفة عالمية متخصصة في الاقتصاد والتكنولوجيا وهو مستقبل وادي السيليكون، فهناك من يرى بأن نهاية هذه المنطقة الاقتصادية الساحرة قد اقترب، وأن العصر الذهبي لها قد ولى والغسق عم المكان.
يقع وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة، التي احتضنت جامعة ستانفورد صاحبة الدور المحوري في تشكيل مستقبل البحث العلمي في تكنولوجيا المعلومات، ويعود مصطلح "وادي السيليكون" إلى أوائل السبعينيات لوصف مجموعة الشركات والمؤسسات ومراكز الأبحاث التي عملت معا في تطوير أشباه الموصلات والتقنيات ذات الصلة. وعلى مدى عقود من الزمن، ازدهر وادي السيليكون كمركز حيوي للتقدم التكنولوجي، واجتذب الأكاديميين المبتكرين، الذين بنوا مختبرات تجتذب برامج البحث والتطوير الممولة من الحكومة والصناعة، والذين ينتجون بعد ذلك علماء يصبحون رواد أعمال يشكلون بدورهم شركات ناشئة تحصل على تمويل من أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية الأثرياء، حتى أصبح معلما رئيسا متميزا بمظهر فريد، حيث يضم مجموعة من المباني الحديثة ذات التصاميم المبتكرة لمقار شركات التكنولوجيا العملاقة مثل أبل وأنتل وغيرهما، إلى جانب مئات من الشركات الصغيرة والمتوسطة وعدد كبير من المختبرات والمؤسسات البحثية التابعة للشركات التقنية، ويمكن أن يعزى نجاح وادي السيليكون إلى هذا النظام البيئي الفريد للأعمال الذي يشمل جامعات عالمية المستوى، وبرامج بحثية حكومية، ومجموعة كبيرة من المواهب، والوصول إلى رأس المال، وثقافة الابتكار والمخاطرة، وتركيز شركات التكنولوجيا من البداية إلى الشركات الكبرى، فلماذا يبدو السحر المحيط بأسطورة وادي السيليكون يزيد ويتراجع تدريجيا؟
لقد ناقشت "الاقتصادية" هذا الموضوع الحيوي في تقرير خاص مع مجموعة من الخبراء، وقد يجمع البعض بأن الجائحة قد أثرت بشكل كبير في طريقة إدارة الأعمال، فالعمل عن بعد أصبح ظاهرة عالمية وتتزايد المطالبات بها والثقافة تنتشر بشكل سريع، وهذا أثر في صناعة العقارات التجارية، وهناك كثير من القلق بشأن قدرة هذه الصناعة على الصمود، إضافة إلى تزايد حمى العمل الحر، حتى وصلت إلى تخصصات طبية مثل التمريض، فكيف بتخصصات مثل التكنولوجيا وغيرها، التي تسرب لها العمل الحر بسهولة، هذه التغيرات في أنماط العمل تحرج الشركات العملاقة وتجعلها تتقبل كثيرا من التغيير، ما يفقد العمل وهجه القديم، لكن هذه القضايا تواجه الجميع، وليس شركات وادي السيليكون فقط، لهذا يقدم التقرير إجابات من نوع مختلف، فمستقبل وادي السيليكون كمركز للابتكار يتعرض للهجوم، حيث يواجه منافسة عالمية متزايدة، فلم يعد الابتكار مقتصرا على موقع جغرافي واحد، والدول حول العالم تستثمر في تطوير مدن وأنظمة تدعم الابتكار، وأصبحت مراكز التكنولوجيا الناشئة مثل شنغهاي في الصين، وبنجالور في الهند، تكتسب شهرة وتجتذب المواهب والاستثمارات، كل هذا يحدث، بينما يواجه وادي السيليكون تحديات تتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة، والقدرة على تحمل تكاليف السكن، وعدم المساواة في الدخل وهذا يجعل المنافسة على جذب المواهب والاحتفاظ بها، خاصة بالنسبة إلى الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة، أمرا صعبا، بينما الأعمال في المناطق الأخرى ذات تكاليف معيشة منخفضة وبيئات داعمة ببدائل جذابة.
وتلخص هذه الحقيقة أستاذة في التكنولوجيا والاقتصاد في مدرسة لندن للتجارة، في أن تآكل جزء من سطوة وادي السيليكون على المجتمع التكنولوجي الأمريكي والعالمي يعود إلى تنامي المنافسة العالمية في قطاع التكنولوجيا بشكل متزايد، فالابتكار لم يعد حصرا على موقع جغرافي واحد، وعديد من الدول تنشط في تطوير أودية السيليكون الخاصة بها. لكن المنافسة التي تواجهها منطقة وادي السيليكون ليست عالمية فحسب، بل حتى في الداخل الأمريكي وبين الولايات، فلقد وجد عديد من الولايات الأمريكية في ارتفاع تكلفة المعيشة والضرائب فيه فرصة لمنح إعفاءات ضريبية ضخمة لجذب الشركات، ويظهر قرار إيلون ماسك بأن يتخذ من ولاية تكساس مقرا رئيسا لشركة تسلا نموذجا للبحث عن أماكن أخرى ربما تكون أكثر ملاءمة للأعمال التجارية.
لكن التحديات التي تواجه وادي السيليكون ليست في بيئة الأعمال، بل تتعدى ذلك إلى القيود التي بدأت تفرض على تطوير التقنيات والتكنولوجيا، فتفوقه في البرمجيات، وتقنيات الإنترنت، والإلكترونيات الاستهلاكية، بدأ يتصاغر أمام النمو في قطاعات أخرى مثل التكنولوجيا الحيوية، والطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية والشركات الناشئة في مثل هذه التقنيات المهمة لم تجد لها قدما في وادي السيليكون، ما دفع بها إلى البحث عن أماكن جديدة، وهذا يفقد الوادي كثيرا من حضوره العالمي في هذه الصناعات الحديثة، التي ستحدد شكل المستقبل القريب.
كل هذا يحدث مع تصاعد في دور الحكومة الأمريكية المركزية التي لديها مخاوف مشروعة بشأن الاحتكار والمنافسة وهيمنة شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تتخذ من الوادي موطنا لها على المشهد التقني والاقتصادي، كما أن التنظيمات الحكومية بدأت تؤثر بشكل واضح في صناعة التكنولوجيا، والضغوط التي مارستها المؤسسات التشريعية الأمريكية لتحجيم تلك الشركات قد نالت من روحها بالفعل، إذ يلاحظ أن كثيرا من الشركات ورؤساء مجالس إدارات شركات تعمل في مجال التكنولوجيا يدافعون الآن عن فكرة فرض مزيد من التنظيم الحكومي على تطوير الذكاء الاصطناعي، وهذا يتناقض مع الروح التي أسس عليها وادي السيليكون.
أمام كل هذا التوجس من لحظات الغسق في وادي السيليكون هناك حقيقة اقتصادية كبرى تتمثل في الثقل الاقتصادي لهذا المركز العالمي الذي يوفر نحو 10 في المائة من الوظائف في كاليفورنيا التي تضم نحو ثلث سكان الولايات المتحدة، ويسهم في 13 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي للولاية التي تعد رابع اقتصاد في العالم، كما أنه موطن لشركات تبلغ قيمتها مجتمعة تريليونات من الدولارات، ولا توجد منطقة في العالم تضاهي هذه القدرة الاقتصادية الكبيرة، وقد لا توجد في وقت قريب، وسيظل هذا المعلم الاقتصادي محركا للابتكارات ولو خرجت منه شركة أو أخرى وسيظل الحالمون يبحثون عن موطئ قدم فيه.