أمريكا اللاتينية .. النمو يتعطل
هناك أوضاع اقتصادية متفاوتة بين دول أمريكا اللاتينية، وهناك أيضا عامل إيجابي مهم في هذه القارة، وهو أنها بعيدة بعض الشيء عن تأثيرات الصراعات الجيوسياسية المباشرة، رغم أنها تتأثر بالطبع بالاضطراب الاقتصادي العالمي الناجم والمسببات المباشرة وغير المباشرة لهذه الصراعات. لكن لا شك توجد مصاعب جمة في أغلبية دول أمريكا اللاتينية عموما، سواء تلك التي تتعلق بالموجة التضخمية التي ارتفعت إلى معدلات هائلة في بعض الدول، أو مسألة الديون التي تفاقمت في الأعوام القليلة الماضية، أو بعدم الاستقرار السياسي في عدد من هذه الدول، بما يكفي لمواجهة المصاعب بقوة وبنتائج حقيقية. والتحولات الراهنة في المنطقة المشار إليها، لا يمكن فصلها عن التأثيرات الدولية الأخرى، بما في ذلك العلاقات الطبيعية والتاريخية التي تجمعها بالولايات المتحدة. فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن (مثلا) وجهت أخيرا تحذيرات لعدد كبير من دول القارة، فيما يرتبط بالديون المستحقة عليها من جانب الصين. وهي دول كبيرة بالفعل.
وبعيدا عن هذه التحذيرات، التي تدخل في نطاق التنافس الصيني- الأمريكي الذي يجري على كل الساحات، رغم بعض الهدوء الأخير لتوتر العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم.. بعيدا عن هذا النطاق، حققت بعض دول أمريكا اللاتينية تقدما على صعيد التضخم، ولكنه ليس كبيرا. فهذه الدول كغيرها من الدول الأخرى، تجهد من أجل خفض تكاليف العيش بأي شكل من الأشكال. ولو أخذنا فنزويلا الدولة التي تشهد أكبر مشكلات اقتصادية مقارنة بغيرها من محيطها، فقد تراجع التضخم بحسب البنك المركزي الفنزويلي من 234 إلى 189 في المائة في العام الماضي. ورغم أن الانخفاض كان كبيرا بالفعل، إلا أن المستوى الذي بلغه التضخم واحد من المستويات الأعلى حول العالم، لو استثنينا نسبة تكاليف العيش في زيمبابوي التي بلغت العام الماضي 700 في المائة.
ورغم معاناة فنزويلا من ارتفاع التضخم حتى قبل الموجة التضخمية التي انفجرت قبل عامين، إلا أن الأمر في هذا المجال أسوأ على الساحة الأرجنتينية التي بلغت فيها نسبة التضخم 211 في المائة في العام الماضي. والأرجنتين تخلفت بالفعل عن السداد، نتيجة تفاقم مديونيتها. وهذه النقطة على وجه الخصوص تشمل أغلبية الدول الناشئة والفقيرة، التي تعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى ارتفاع تكاليف الاقتراض، بسبب الزيادة الكبيرة لأسعار الفائدة، ولا سيما على الدولار الأمريكي، التي تحتسب أغلبية الديون السيادية في العالم على أساسه. والفائدة المرتفعة المحلية في أمريكا اللاتينية ضربت تلقائيا مسار النمو، ما رفع الضغوط على الحكومات أكثر. والحق أن النمو المنخفض شمل حتى الدول التي كانت تتمتع بأعلى مستويات له على مستوى العالم قبل حلول العقد الحالي.
مع الإشارات "الإيجابية" على صعيد التضخم في القارة الأمريكية الجنوبية، إلا أن المصاعب مستمرة، وستتواصل بالطبع طالما أنه لا يمكن الوصول بالنمو إلى المستوى المأمول، أو حتى المتواضع في المرحلة المقبلة. فضلا عن أن بعض دول هذه المنطقة لا يزال يعاني تراجع الشفافية، الأمر الذي يجعل المسألة أكثر صعوبة. لكن بلا شك، أي خطوة إيجابية يمكن البناء عليها، إلا أن النتائج لن تكون سريعة، ولا سيما في ظل الاضطرابات التي يواجهها الاقتصاد العالمي كله، وعدم وجود بارقة أمل على تراجعها على الأقل في العام الحالي.