«دافوس» .. هل يصنع شيئا؟
عندما نقرأ عبارة منتدى دافوس، يقفز إلى الأذهان تلك الجلسات الحوارية التي يشارك فيها كبار السياسيين في العالم، لكن منتدى دافوس رغم هذه الجلسات الحوارية التي تدور في نقاشات تنظيرية، إلا أن هذا النوع من المؤتمرات تنعقد دوريا لتنتج عنها توصيات، كما يقول الموقع الإلكتروني للمنتدى نفسه، حيث تعقد اجتماعات سنوية رئيسة، وهي: الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي، المنعقد في دافوس كلوسترز في سويسرا، وهو يرسم جداول الأعمال العالمية والإقليمية والصناعية في بداية العام الميلادي، والاجتماع السنوي للأبطال الجدد، وهو الاجتماع السنوي للمنتدى حول الابتكار والعلوم والتكنولوجيا، وفي جمهورية الصين الشعبية، هناك الاجتماع السنوي لمجالس المستقبل العالمية، ومجتمع المعرفة الرائد في العالم لتبادل الأفكار حول التحديات الرئيسة التي تواجه العالم اليوم، الذي يعقد في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأخيرا اجتماع استراتيجية الصناعة بين مسؤولي استراتيجية الصناعة لتشكيل جداول أعمال الصناعة واستكشاف كيف يمكن للصناعات التحول من إدارة التغيير إلى التغيير الرائد.
ورغم أن شهرة منتدى دافوس لم تتحقق بشكل كامل إلا مع العقد الثاني من القرن الحالي، حيث تم في 2015، الاعتراف بالمنتدى رسميا كمنظمة دولية، إلا أن له تاريخا طويلا بدأ منذ انهيار آلية بريتون وودز لسعر الصرف الثابت واندلاع الحروب العربية - الإسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي، حيث تمت دعوة الزعماء السياسيين لأول مرة إلى دافوس في يناير 1974، ثم جاء إعلان دافوس الذي وقعته اليونان وتركيا في 1988، وتم عقد اجتماعات كوريا الشمالية والجنوبية في 1989 كما التقى هانز مودرو رئيس وزراء ألمانيا الشرقية هيلموت كول المستشار الألماني لمناقشة إعادة توحيد ألمانيا، وفي 1992، التقى دي كليرك رئيس جنوب إفريقيا مع نيلسون مانديلا والزعيم مانجوسوتو بوثيليزي في الاجتماع السنوي، وهي الآن في المرحلة التالية من رحلتها كمنصة عالمية للتعاون بين القطاعين العام والخاص.
على هذا الأساس من الإسهامات التاريخية يجتمع في كل عام وعلى مدار خمسة أيام نحو 2500 مشارك يمثلون أكثر من 100 حكومة ومنظمة دولية كبرى، وما يفوق 1000 من أهم الشركات العالمية في القطاع الخاص، إضافة إلى عديد من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية ودور الفكر، وكما أشرنا، فإن هذا الاجتماع السنوي يحدد جداول الأعمال، لكل اجتماعات المنتدى خلال العام، ومن ذلك الاجتماعات الإقليمية، وكان لمنطقة الشرق الأوسط نصيب من هذه الاجتماعات الإقليمية التي بدأت في 2002 في الأردن، واستضافت مدينة شرم الشيخ المصرية الاجتماع الإقليمي للمنتدى الذي تناول مستقبل السلام والتنمية في منطقة الشرق الأوسط.
ويحاول هذا المنتدى كسب أهمية من خلال طرح مناقشات مهمة بشأن الأخطار التي تواجه العالم سياسيا واقتصاديا، حيث يقول الشريك الإداري العالمي في شركة ماكينزي تعليقا على تقرير الأخطار العالمية، الذي ينشره المنتدى سنويا: إن العالم أصبح منقسما على نحو متزايد في بعض الأبعاد، ونظرا للتأثير الكبير للحرب الروسية - الأوكرانية، خاصة في إمدادات الغذاء العالمية فقد تم عقد اجتماعات حول صيغة السلام بين الدولتين المتنازعتين، وانضمت 83 دولة ومنظمة دولية إلى المناقشات، ويأمل المنتدى أن يحقق تقدما في السلام العالمي كما حققه 1988 بين اليونان وتركيا، ويأتي موضوع الذكاء الاصطناعي كأبرز المهام ذات الأولويات على قائمة الأعمال العالمية وسيحظى موضوع الذكاء الاصطناعي كقوة دافعة للاقتصاد والمجتمع بنحو 30 جلسة منفصلة، وسيكون سام ألتمان رئيس شركة OpenAI، موجودا في دافوس جنبا إلى جنب مع كبار المسؤولين التنفيذيين من شركة مايكروسوفت، ما ساعد على تمويل صعود شركته، لمناقشة مسائل مهمة مثل الذكاء الاصطناعي في التعليم، والشفافية بشأن التكنولوجيا، وأخلاقياتها، وتأثيرها في الإبداع، كلها جزء من القائمة، ويسبح متنزه دافوس في الإعلانات والعروض التي تشير إلى التكنولوجيا الجديدة.
ورغم تكرار دورات هذا المنتدى بشكل ثابت إلا أنه حتى الآن لم ينجح في طرح حلول لقضايا جوهرية تشغل العالم وتنبع منها أزمات متلاحقة خاصة التواترات الجيوسياسية التي انتشرت بصورة مكثفة في كثير من دول العالم وانعكست آثارها على الوضع الاقتصادي لتلك الدول ونلاحظ كيف عانت الأسواق العالمية ومعدلات أسعار السلع في الأسواق والتضخم الذي بقي لفترة طويلة دون تخفيض للمعدلات العالية. ولكن نتوقع هذه المرة أن تكون الأجواء ساخنة مع نقاش الحالة الإنسانية في غزة، والصراع في الشرق الأوسط وتدهور مستويات الحرب في أوروبا. لكن السؤال المطروح والملح، هل تقدم هذه النقاشات الساخنة هذه المرة، وتكون أكثر جدية من الماضي، ويتم طرح حلول لهذه الصراعات الجيوسياسية العميقة والحادة التي يشاهدها العالم حاليا وينعكس ظلالها وتأثيرها على الوضع الاقتصادي والتجاري لكثير من دول العالم، أم يصبح هذا المنتدى المشهور عبارات وجدلا تنطلق فقاعاته في الهواء الطلق دون تحقيق الفائدة المرجوة من انعقاده، ويعوض الأموال التي تنفق من أجل تنظيمه، ويبقى فقط صورا تذكارية وتصافحا بالأيادي ونقلا إعلاميا مباشرا يرهق عيون المشاهدين والمتابعين دون طرح حلول ملموسة، كما لاحظنا في الدورات السابقة، ولا سيما أن العالم يشتط ويعج بالقضايا المعقدة سياسيا واقتصاديا.
لذلك، ووسط الأزمات التي يشهدها العالم، يترقب الجميع ما الذي سيقدمه "دافوس" في دورته الحالية، وكيف ستكون نظرته للصراعات الحالية والتوترات الجيوسياسة التي يتزايد تعمقها وتعقيدها وتداعياتها.