دعك من السياسة .. «إنه الاقتصاد يا غبي»
لقد دخلنا فترة من المنافسات والصراعات الجيوسياسية المتزايدة الحدة. فالآن، الحرب الروسية ـ الأوكرانية تدخل عامها الثالث، ولا يزال من الممكن أن يتحول الصراع بين إسرائيل وحماس إلى حرب إقليمية، وقد تتحول الحرب الباردة المتفاقمة بين الولايات المتحدة والصين إلى حرب ساخنة حول تايوان في وقت ما من هذا العقد.
رغم أن الحرب الروسية - الأوكرانية تظل وحشية كما كانت دائما، فمن المرجح أن تكون تأثيراتها العالمية أكثر تواضعا. فاليوم أصبحت مخاطر التورط المباشر من جانب حلف شمال الأطلسي أو استخدام روسيا الأسلحة النووية التكتيكية أقل مما كانت عليه في مراحل أسبق من الحرب. على نحو مماثل، في حين أنتجت الحرب في مستهل الأمر ارتفاعا حادا في أسعار الطاقة والغذاء والأسمدة والمعادن الصناعية، فإنه حتى أوروبا ــ المنطقة الأكثر تضررا ــ استوعبت الصدمة مع تباطؤ متواضع في النمو (أو توقفه في بعض الحالات)، ولكن ليس الركود الحاد الذي كان يخشاه كثيرون من المحللين.
ولم تخلف الحرب بين إسرائيل وحماس سوى تأثير اقتصادي إقليمي وعالمي محدود حتى الآن. صحيح أن الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي انكمش بشكل حاد في الربع الرابع من 2023 ومن المرجح أن يظل ضعيفا ما دام الصراع متواصلا. ومن الواضح أن الضرر الاقتصادي الذي لحق بغزة أشد خطورة، كما انخفضت عائدات مصر من قناة السويس ــ أحد المصادر الرئيسة لعائدات النقد الأجنبي ــ بسبب هجمات الحوثيين اليمنيين على شحن البضائع عبر البحر الأحمر. ولكن، إذا ظل الصراع محصورا على طول خطوطه الحالية، فسيظل التأثير الاقتصادي والسوقي العالمي محدودا أيضا.
ورغم أن الحرب الباردة ــ أو المنافسة الاستراتيجية ــ بين أمريكا والصين من المرجح أن تتفاقم بمرور الوقت، فقد لا تتدهور العلاقات بدرجة كبيرة هذا العام. في أواخر العام الماضي، اتفق الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينج على إذابة الجليد تكتيكيا، وكانت ردة فعل الصين إزاء نتيجة الانتخابات الرئاسية غير المستحبة في تايوان مقيدة نسبيا. ورغم أن قضية تايوان قد تصل إلى مرحلة الغليان في وقت لاحق من هذا العقد، فمن غير المرجح أن يحدث ذلك في عامنا هذا أو العام المقبل.
الأثر الأعظم الذي قد تخلفه إدارة ترمب الثانية في الأسواق هو من خلال سياساتها الاقتصادية. لا شك أن سياسات الحماية التي تنتهجها الولايات المتحدة ستزداد شدة. فقد صرح ترمب بالفعل بأنه سيفرض تعريفة بنسبة 10 % على كل الواردات القادمة إلى الولايات المتحدة، ومن المنتظر أن يفرض تعريفات جمركية أعلى على الواردات من الصين. هذا من شأنه أن يشعل شرارة حروب تجارية جديدة، ليس فقط مع منافسين استراتيجيين مثل الصين، بل وأيضا مع حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
إن نشوب حرب تجارية عالمية من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض النمو وارتفاع التضخم، وهذا كفيل بأن يجعلها أكبر خطر جيوسياسي ينبغي للأسواق أن تضعه في الحسبان في الأشهر المقبلة. في هذا السيناريو، ستتحول مخاطر مثل تفكيك العولمة، والانفصال، والتفتت، وسياسات الحماية، وتشظي سلاسل العرض العالمية، والتحول بعيدا عن الدولار، إلى تهديدات أعظم خطرا للنمو الاقتصادي والأسواق المالية.
كلنا نتذكر المقولة الشهيرة: "إنه الاقتصاد يا غبي". والآن تشكل أجندة السياسة الاقتصادية التي يتم اقتراحها في كل السياسة الدولية التهديد الأعظم للاقتصادات والأسواق في مختلف أنحاء العالم.