الرخاء سلعة عامة عالمية
لارتفاع مستويات عدم المساواة الاقتصادية تأثير مدمر على رأس المال الاجتماعي والثقة في المؤسسات العامة، والشركات، وبين الأفراد. ونرى الثقة تتضاءل بين البلدان أيضا، فمن شأن تصاعد التوترات الجغرافية-السياسية أن يقود الاقتصاد العالمي نحو التشرذم إلى كتل متنافسة، فيصبح العالم أكثر فقرا وأقل أمانا. ومن دواعي الأسى أن ذلك يحدث بالفعل في وقت نحتاج فيه إلى التعاون أكثر من ذي قبل؛ لمعالجة القضايا التي لا حدود لها ولا يقدر على حلها أي بلد بمفرده، ولا سيما قضايا تغير المناخ.
ستتوقف التوقعات المستقبلية لأحفادي على مدى قدرتنا على تخصيص رأس المال للمجالات التي تكون في أمس الحاجة إليه التي ستحقق أكبر تأثير إيجابي. فما السبيل الذي علينا أن نطرقه الآن؟ إذا كان لنا أن نسترشد بالسنوات الـ100 الماضية، فيمكننا الوثوق بدرجة معقولة في قدرتنا على تحقيق تقدم مذهل مرة أخرى. وإذا أضفنا إلى ذلك فهما واضحا لما لم يحقق النتائج المرجوة في الماضي فسنكتسب القدرة على الوفاء بوعدنا لأحفادنا.
وهنا أستعرض اثنين من السيناريوهات للأعوام الـ100 المقبلة، أعدهما خبراء صندوق النقد الدولي. في سيناريو يمكن أن نسميه "السيناريو منخفض الطموح"، سيزداد إجمالي الناتج المحلي العالمي بنحو ثلاثة أضعاف وسترتفع مستويات المعيشة العالمية إلى ضعف ما هي عليه اليوم. وفي "السيناريو عالي الطموح"، سيزداد إجمالي الناتج المحلي العالمي 13 ضعفا، وترتفع مستويات المعيشة تسعة أضعاف.
ما السبب في هذا الفرق الكبير؟ يستند "السيناريو منخفض الطموح" إلى تجارب مستويات المعيشة في ظل معدلات النمو الأقل خلال الـ100 سنة قبل عام 1920، في حين يستند السيناريو الآخر إلى متوسط معدلات النمو الأعلى بكثير بدءا من 1920 حتى الآن. وأعتقد أن أحفادنا سيتمتعون بالأفضل بين الاثنين. ولتحقيق ذلك، سيتعين علينا المثابرة في الالتزام بوضع اقتصادنا على أسس سليمة من استقرار الأسعار إلى مستويات الدين العام المستدامة والاستقرار المالي، إضافة إلى الالتزام بالانفتاح التجاري وريادة الأعمال لتعزيز النمو وفرص العمل. ولكن ذلك لن يكون كافيا. فسنكون بحاجة لتعاون دولي أفضل ونوع مختلف من النمو - أكثر استدامة وإنصافا. فدراسات الصندوق البحثية تبين أن انخفاض عدم المساواة في توزيع الدخل يمكن أن يرتبط بنمو أعلى وأكثر قدرة على الاستمرار.
ولا بد أن نستخدم تراكم رأس المال على نحو أكثر حكمة. فستتوقف التوقعات المستقبلية لأحفادي على مدى قدرتنا على تخصيص رأس المال للمجالات التي تكون في أمس الحاجة إليه التي ستحقق أكبر تأثير إيجابي. إذن، أين ينبغي توجيه رأس المال؟ وهنا لا بد من إلقاء الضوء على مجالات ذات أولوية للاستثمار.
أولا، الاقتصاد المناخي: فالصدمات المناخية في الوقت الراهن تلحق الأضرار بالاقتصادات في كل مكان، من الجفاف وحرائق الغابات والفيضانات إلى التأثيرات الأقل وضوحا في مجالات مثل سلاسل التوريد وأسواق التأمين. ويرى المتشائمون أن البشرية ينتظرها مصير كارثي. لكنني أرى صورة مختلفة: فإذا اتخذنا إجراءات حاسمة، ولا سيما خلال هذا العقد، يمكننا أن نصل إلى اقتصاد يتسم بالحياد الكربوني ونساعد على تأمين كوكب صالح للحياة. ويجب أن نقطع الوعود بتحقيق ذلك.
اشتهر جون ماينارد كينز بكتابه المنشور 1936 بعنوان "The General Theory of Employment, Interest and Money" (النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود) الذي يُعتقد أنه وراء نشأة علم الاقتصاد الكلي الحديث. لكنه نشر مقالا قصيرا أقل شهرة قبل ذلك بستة أعوام، بعنوان "الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا"، استند فيه إلى محاضرة ألقاها أمام جمعية الصداقة الأنجلو-إسبانية في مدريد. وذهب كينز في هذا المقال إلى أن مشكلات الكساد الكبير أعمت بصيرة المتشائمين من أصحاب الفكر الثوري والفكر الرجعي على السواء عن رؤية الإمكانات المحتملة في الـ100 سنة التالية. وتوقع أن يؤدي التغير التكنولوجي الذي أطلقته الثورتان العلمية والصناعية إلى حل "المشكلة الاقتصادية" التي تواجه البشرية في توفير موارد الرزق اليومي مدى الحياة، إذ سيكون بوسع العمال تأمين كل احتياجاتهم المادية بالعمل لمدة ثلاث ساعات فقط في اليوم. لكن كينز لم يكن على صواب في كل ما ذهب إليه - فقلة فقط من المحظوظين يمكنهم أن يعيشوا في رغد العيش.