السياسة الصناعية.. حلم بعيد المنال
خلال "القمة" الأخيرة التي استضافتها برلين، أعلن خبراء اقتصاديون بارزون من يسار الوسط، "إجماع جديد" بخصوص السياسة الصناعية. ثم نشر المؤرخ الاقتصادي بجامعة كولومبيا، آدم توز، إعلانهم المشترك بالكامل، وأثنى على كونه ينص على اتفاق شامل على مبادئ السياسة الاقتصادية والصناعية، وعلى الطريقة التي ضمنت بها هذه المبادئ في قراءة الأخطار السياسية والجيوسياسية في الوقت الراهن."
ووفقا لإعلان برلين، تنقسم تلك الأخطار إلى نوعين. هناك أخطار حقيقية مثل تغير المناخ، والتفاوتات التي لا تطاق، والصراعات العالمية الكبرى. وهناك أخطار مثل السياسات الشعبوية الخطرة التي يحكمها " شعور مشترك على نطاق واسع بفقدان السيطرة... بسبب العولمة والتحولات التكنولوجية. ويقال لنا أن النوع الثاني ناتج عن سنوات من سوء إدارة العولمة، والثقة المفرطة في التنظيم الذاتي للأسواق، والتقشف الذي أدى إلى إضعاف قدرة الحكومات على الاستجابة لمثل هذه الأزمات بفاعلية.
وتقدم مجموعة الخبراء الاقتصاديين تسع توصيات: تحويل التركيز السياسي من جعل الكفاءة الاقتصادية أولوية قصوى نحو الرخاء المشترك وتأمين الوظائف الجيدة؛ وتطوير السياسات الصناعية... ودعم الصناعات الجديدة وتوجيه الابتكار نحو إيجاد الثروة لكثيرين، وتوجيه تركيز السياسة الصناعية بعيداً عن الإعانات ونحو الابتكار؛ وتصميم عولمة سليمة بقدر أكبر؛ ومعالجة عدم المساواة في الدخل والثروة.
صحيح أن الناس العاديين غاضبون. إذ بعد أن تلقوا وعودا بتطبيق مبادئ ديمقراطية الطبقة المتوسطة التي ترتكز على وظائف صناعية مستقرة، وجد كثيرون أنفسهم يكدحون كعبيد في اقتصاد العمل الحر. وتحكمهم حكومة القِلة، ويحتقرهم مهنيون متعجرفون يعيشون في المناطق الحضرية، ويُعد خبراء الاقتصاد من بين أسوأ هؤلاء المتغطرسين.
والمشكلة الحاسمة هي أنه لا توجد صلة بين الاستثمار في المناخ ورفاهية عدد أكبر من السكان اليوم، أو حتى في المستقبل القريب. فهل ستنخفض فواتير الخدمات أو الضرائب أو أسعار الفائدة نتيجة لذلك؟ لا، لن يحصل هذا. وهل تصل المنتجات الجديدة إلى السوق لأن التعريفات الجمركية الضخمة منعت السلع المنتجة بالفعل في الصين من الدخول؟ بالتأكيد لا. إن الطريقة الوحيدة لتوزيع فوائد الثروة المترتبة على الإبداع على كثير من الناس تتلخص في اعتماد نظام يتحكم فيه المجتمع على العملية برمتها. وكما قال ثورستين فيبلين ذات يوم سوف تحتاج إلى "لجنة من المهندسين"، يديرون هذه المشاريع كما أدير مشروع مانهاتن أو برنامج الفضاء.
والحقيقة المؤسفة هي أن المدافعين عن السياسة الصناعية اليوم هم غالبا الأشخاص نفسهم الذين طرحوا الفكرة لأول مرة قبل أكثر من 40 عاما، في محاولة لإنقاذ الديمقراطيين في مواجهة اقتصاد ريغان. وفي ذلك الوقت، على الأقل، كان الأمر منطقيا. ولكن الآن، كما كان الحال في الماضي، يبدو أنهم غير راغبين في مواجهة البنوك، أو المقاولين العسكريين، أو أباطرة التكنولوجيا الذين يديرون الغرب الآن. وهم لا يدعون إلى إلغاء التمويل، أو نزع السلاح، أو -كما فعل جون ماينارد كينز ذات يوم- تعميم الاستثمار الجديد. إنهم يسعون إلى إعادة بناء قدرة الدولة، بينما يتجاهلون كل القوى التي دمرتها.
ومن ناحية أخرى، تعمل قوى سياسية جديدة واسعة النطاق على ملء الفراغ الذي خلفته السياسات النيوليبرالية في أمريكا وأوروبا. ونظراً إلى الضرر الذي حدث، فقد لا تكون هناك طريقة لتهدئة الغضب الذي يشجع "الشعبويين الخطرين" على تولي السلطة. ولكن من المؤسف أنه من المستبعد أن تساعد التطلعات المثالية المرتبطة بفكرة عفا عليها الزمن على تهدئتهم.
خاص بـ " الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.