القضاء يزعزع أركان الأسس المالية الأمريكية
الأمريكيون مشهورون بتحويل كل نزاع تقريبا إلى دعوى قضائية، لكن الشروط الأساسية للعقد المالي في أمريكا الذي يحدد الكيفية التي تمول بها الحكومة الفيدرالية عملياتها -السلع والخدمات التي تقدمها- ظلت حتى الآن حصينة ضد الطعون القانونية. وقد هددت قضيتان رفعتا أخيرا أمام المحكمة العليا بتغيير هذه الحال. كان مصير القضيتين الفشل، لكن بالكاد، ومن غير المرجح أن تستسلم القوى التي دفعت بهما في أي وقت قريب.
منذ تسعينيات القرن العشرين، دأب المحامون والقضاة المحافظون في الولايات المتحدة بانتظام على مهاجمة الصلاحيات الشاملة المفترضة التي تتمتع بها الحكومة الفيدرالية. ففي عهد رئيس المحكمة العليا السابق وليام رينكويست، قيدت المحكمة العليا سلطات الكونجرس في تنظيم السلوك الخاص. وفي عهد رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، الذي ترأس المحكمة منذ 2005، كانت المحكمة معادية للنطاق التنظيمي الذي تتمتع به الوكالات الإدارية، فأصدرت قرارات عرقلت تنفيذ سياسات مثل قانون الرعاية الميسرة الذي أقره الرئيس باراك أوباما "أوباما كير".
استهدفت القضية الأولى النظام الضريبي. في قضية مور ضد الولايات المتحدة، طعن زوجان -آل مور- في أحد أحكام قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017 الذي يفرض ضريبة لمرة واحدة على الأرباح المتراكمة غير الموزعة التي تعود على مساهمين أمريكيين في شركات أجنبية. زعم جانب الادعاء أن "ضريبة إعادة الأرباح الإلزامية" هذه تنتهك التعديل السادس عشر لدستور الولايات المتحدة الذي يخول الحكومة الفيدرالية فرض ضرائب على الدخول من أي مصدر دون تجزئة أو إحصاء، وحث المحكمة على حصر هذه السلطة في الدخل "المحقق".
لكن قانون الضرائب الأمريكي عامر بالأحكام التي تعامل دخل الكيان بوصفه دخل مالكيه، حتى لو لم يكن المال في أيديهم. فالشراكات، والشركات التي تحول الدخل والخسائر إلى المساهمين، والسندات، والعقود الآجلة، والشركات الأجنبية المملوكة لأمريكيين، كلها تخضع للضريبة على هذا النحو. وعلى هذا، فلو قضت المحكمة العليا لمصلحة آل مور، فإنها كانت لتطلق العنان لطوفان من الطعون القانونية في قانون الضرائب، وكان هذا ليفضي إلى إحداث ثقب هائل في الميزانية الفيدرالية.
حتى لو فازت الحكومة بكل طعن جديد مستلهم من قضية مور ضد الولايات المتحدة، فإن انعدام اليقين بشأن التزامات ضريبة الشركات كان ليقض مضاجع الأسواق المالية، ويثير الشكوك حول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشؤون الاقتصادية قبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر، وفي الأمد البعيد، كانت قاعدة التحقق لتضعف قدرة الحكومة على منع التهرب الضريبي من جانب الشركات والأفراد.
النبأ السار هنا هو أن المحكمة العليا الأمريكية قضت ضد آل مور، حيث أقر القاضي بريت كافانو في رأيه بأن فرض قيد على تحقيق ضرائب الدخل من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع "كارثة مالية". لكن النبأ السيئ هو أن المحكمة كانت منقسمة، حيث كان اثنان من قضاة المحكمة العليا على استعداد لقبول احتمالات الاضطرابات المالية.
في القضية الثانية، استهدفت جمعية الخدمات المالية المجتمعية في أمريكا، وهي مجموعة تجارية تعمل في الصناعة المصرفية، مكتب الحماية المالية للمستهلك، الذي ينظر إليه المحافظون بوصفه مصدرا للتنظيم المفرط. وفقا للشكوى، تنتهك بنية تمويل مكتب الحماية المالية للمستهلك "فقرة المخصصات" في دستور الولايات المتحدة الذي ينص على أن الإنفاق الفيدرالي يجب أن يكون "لاحقا للمخصصات التي يقررها القانون".
في أقل تقدير، كان ظل من انعدام اليقين القانوني ليلقى على الاحتياطي الفيدرالي. بل ربما كان البنك ليواجه تجميدا دستوريا، مع عواقب وخيمة تتحملها الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. الحقيقة الصادمة هنا هي أن اثنين من قضاة المحكمة العليا وهما صامويل أليتو ونيل جورسوتش، كانا على ما يبدو متسامحين مع هذا الاحتمال.
لماذا يحاول المتقاضون زعزعة استقرار الأسس المالية الأمريكية، وكيف تعد قضاياهم جديرة بالاهتمام النادر من جانب المحكمة العليا؟ الإجابة بسيطة: إن الأغلبية المشروطة المحافظة لقرارات المحكمة بواقع 6 إلى 3 أصوات، بعد أن أظهرت استعدادها لتقويض سلطات الحكومة القائمة منذ أمد بعيد لدعم حملة مناهضة للقيود التنظيمية، شجعت كلا من الانتهازيين والمذهبيين. وقد تتحقق أمانيهم، فبفضل حلفائهم في المحكمة العليا، بدأت الهجمات على النظام المالي الأمريكي للتو.
خاص بـ «الاقتصادية» حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.