رؤية 2030 "ليست قرآنا"
ليس جديدا أو مفاجئا ما نشرته وكالة بلومبرغ العالمية من أن السعودية تجري مراجعة حول تنفيذ بعض المشاريع الكبرى، وقامت بتحديد أولويات الصرف وخفض ميزانيات بعضها، ورفع أخرى، هذا الخبر بالنسبة لي وللمتابعين لأخبار الاقتصاد السعودي -على الأقل- لا يمثل شيئا جديدا.
السعودية على مدى السنوات الماضية بطّأت من وتيرة بعض المشاريع ومددت تطبيق بعض برامجها وخططها، مثل: تمديد برنامج التحول الوطني وتمديد الإعفاء من المقابل المالي على المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وغيرها من البرامج المهمة التي جرى التعديل على جداولها الزمنية، بهدف عدم الإضرار بالنمو الاقتصادي او لاعتبارات مالية وأولويات أخرى.
ولعلي هنا أشير إلى لقاء جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعدد من الاقتصاديين والصحافيين في وقت سابق من العام 2023، وكنت أحد المشاركين فيه، عندما قال لنا: إن رؤية 2030 "ليست قرآنا"، يقصد أنها قابلة للتغيير والتعديل، مؤكدا في ذات اللقاء ولقاءات أخرى سبقته أن خطط الرؤية ومشاريعها تتم مراجعتها بشكل دوري، وأن هنالك لجان متخصصة تعمل على المواءمة بين تلك المشاريع وعلى فرزها وتصنيفها، وفقا لأولويات المرحلة، ووفقا لقاعدة "الممكن وغير المضر".
اللقاء المذكور مع ولي العهد تمت الإشارة فيه إلى قرارات، مثل: المقابل المالي على الوافدين، وتمديد فترة برنامج التحول الوطني، والحديث عن سوق مواد البناء وأن الطلب العالي على الأسمنت والحديد من مشاريع مثل نيوم والبحر الأحمر والقدية قد يصعد بالأسعار لمستويات قياسية، وكان جواب سموه على الدوام أن ذلك مرصود، ويتم التعامل معه بشكل مرحلي، وأن المسألة خاضعة للتقييم دوما.
واحدة من أقوى سمات رؤية 2030 هي تركيزها على تعميق الأثر وإشراك القطاع الخاص في رحلة التحول لإحداث النقلة النوعية المطلوبة للاقتصاد السعودي، مع المراجعة الدورية للإستراتيجيات والسياسات والبرامج والمبادرات لتعزيز فاعليتها وتصحيح مسارها، ما يؤكد أننا أمام عملية حيوية ديناميكية لن تتوقف إلا بالوصول إلى أهداف الرؤية التي تلبي تطلعات جميع المواطنين مهما بلغت التحديات أو جرى التعديل وإعادة ترتيب الأولويات.
وعلى الرغم من التحديات المتوقعة وغير المتوقعة التي فرضتها الاحداث خلال السنوات السبع الماضية من عمر الرؤية مثل جائحة كورونا بنهاية 2019 وما تبعها من تراجع لأسعار النفط، ثم التوترات الجيوسياسة في المنطقة والعالم التي لا تتوقف، مثل: الصراع في اليمن أو الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب على غزة، فإن المؤشرات المالية والاقتصادية تؤكد أن السعودية تمضي قدمًا في تحقيق التقدم لإنجاز مستهدفات الرؤية، من خلال الانضباط المالي، وكفاءة الإنفاق، والاستخدام الأمثل للموارد.
المحافظة على الاستقرار المالي كركيزة أساسية للنمو المستدام، هي واحدة من المفاهيم السعودية التي نلمسها بوضوح في الموازنات العامة للدولة مع نهاية كل عام، ولعل اللجوء لأسواق الدين العالمية رغم وجود احتياطيات ضخمة للسعودية وخفض وتيرة الإنفاق على بعض المشاريع هو خير مثال على تلك الرغبة في جعل وتيرة النمو والإنفاق لا تؤثر أبدا في هدف إستراتيجي مهم، هو "الاستدامة المالية".
وبالعودة للقاء ولي العهد مع الاقتصاديين؛ أتذكر أيضا أنه قال إن "تنفيذ 70 % من رؤية 2030 سيكون كافيا ومرضيا لطموحات القيادة وسيحدث التغيير المطلوب في الاقتصاد السعودي"، وهذه جملة شجاعة وبعد نظر كبير تدل على أن سقف الطموحات المطروحة ضمن أجندة الرؤية هو عالٍ جدا جدا جدا، ويمكن أن يصعب تحقيق بعضها -وهذا طبيعي- عندما يكون المشروع تحوّلا ضخما كما يحدث اليوم في الاقتصاد السعودي.
ولا ننسى أيضا أن فوز السعودية باستضافة إكسبو 2030 وفرصة تنظيم كأس العالم 2034 يتطلبان إعادة توقيت تنفيذ بعض المشاريع على حساب مشاريع أخرى طارئة ومهمة.
هذه الثقافة والمفاهيم التي يطرحها ولي العهد السعودي وهو يتابع تنفيذ الرؤية، تعمل بها معظم مؤسسات الدولة اليوم، إذ إنها تضع خططا لمشاريع ضخمة وفق ميزانيات كبيرة، بل تطلق بعض الأنظمة والبرامج ثم تقوم بمراجعتها بين فترة وأخرى وقد تتراجع عن بعضها إذا رأت أن هذا الوضع لا يخدم الأهداف الإستراتيجية لإنشائها، ولعل آخر مثال على ذلك هو وقف برنامج "إجادة"، الذي أطلقته أمانة الرياض قبل عدة سنوات واستبداله ببرنامج آخر بعد أن لمس القائمون عليه آثاره السلبية في قطاع المال والأعمال، تحديدا صغار المستثمرين.
بقي أن أقول إن ما تنفذه السعودية من مشاريع متنوعة وضخمة في كافة القطاعات يجعل من ظاهرة مراجعة المشاريع أو إلغاء بعضها أو تقليص العمل فيها أو التأخير في تنفيذها من الظواهر الصحية الاقتصادية التي يوصي بها كثير من الاقتصاديين وواضعو ومنفذو المشاريع الكبرى على مستوى العالم، وهناك نماذج كثيرة ليس المجال الآن متاحا لذكرها، فالاقتصاد في مفهومه الحديث في الأساس هو عملية إصلاح مستمرة حتى يتم الوصول إلى الصيغة النهائية لإنجاح أي مشروع، وهذا لا يعني أن كل ما تقوله التقارير الدولية عن تأخير بعض مشاريع الرؤية أو تقلل ميزانيتها صحيح بالضرورة.