الاستعداد لعالم أكثر تضخما
في عدد كبير من البلدان، يتغير المشهد السياسي دراميا، وربما على نحو ينبئ بقدوم سياسات أكثر تطرفا في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. في مواجهة الشيخوخة المجتمعية، وانحسار العولمة، والمشاعر المناهضة للهجرة، والتقدم التكنولوجي، ستستشعر البنوك المركزية بالضغوط من اتجاهات مختلفة عديدة في السنوات المقبلة.
تشكل السياسة المالية والديون أحد التخوفات الواضحة. عندما يصل سياسيون متطرفون إلى السلطة، فإنهم نادرا ما يفكرون في التقشف. يصل أغلبهم إلى السلطة حاملين خططا جريئة كبيرة تتطلب زيادات هائلة في الإنفاق.
من المرجح أن تعود أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة حسب التضخم) إلى اتجاهها طويل الأجل، وهذا يعني أن تكاليف خدمة الدين ستلتهم مقادير أعظم من ميزانيات الحكومات. من المؤكد أن الإنفاق العسكري أيضا سيرتفع، نظرا للأحوال الجيوسياسية، ومن المرجح أن تكون زيادة الإنفاق على التعليم واجبة مع محاولة الحكومات تجهيز شعوبها لعصر الذكاء الاصطناعي.
كل هذا الإنفاق الصافي الإضافي يعني أن البنوك المركزية ستضطر إلى التعويض عن الدوافع التوسعية من جانب الحكومات بالاستعانة بسياسة أكثر إحكاما. ولكن لأن كثيرا من البلدان أصبحت مُثقَلة بالديون بالفعل، فإن أسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة بشكل مستدام من شأنها أن تغذي الشكوك حول استدامة الديون. فهل تغض البنوك المركزية الطرف وتسمح بنمو أعلى للأسعار، على أمل التخلص من بعض الديون بالتضخم؟ أو أنها قد تتحدى حكوماتها، وترفع أسعار الفائدة.
ولكن ماذا عن الاتجاهات الديموغرافية؟ إن النمو سيتباطأ مع انحدار قوة العمل بسبب انكماش عدد السكان في سن العمل في الصين، والشيخوخة السكانية في أماكن أخرى. من ناحية أخرى، سيرتفع الإنفاق جزئيا لتلبية الحاجة إلى مزيد من رعاية المسنين، وقد يتعزز نمو الأجور مع تزايد ندرة العمال. وسيكون كل هذا تضخميا.
سيستمر انحسار العولمة في زيادة أسعار السلع الأجنبية. ولكن هل تكون هذه العملية تضخمية؟ قد يتوقف هذا على كيفية تطور العملية، إذا كانت الرسوم الجمركية مفاجئة، فسترتفع معدلات التضخم بدرجة كبيرة، وستواجه البنوك المركزية صعوبة في تجنب رفع أسعار الفائدة.
يجب أن نقارن هذه النظرة الحميدة نسبيا بتجربتنا في عقود العولمة التي سبقت الأزمة المالية العالمية، عندما انخفض التضخم في مختلف أنحاء العالم. فإذا كانت العولمة أفضت إلى انخفاض التضخم، أفلا ينبغي لانحسار العولمة أن يؤدي إلى ارتفاعه؟
قد يؤدي انحسار العولمة أيضا إلى زيادة قوة النقابات، وهو ما من شأنه في ظل ذات الافتراضات أن يخفف من هذا الإغراء. ولكن لأن العولمة كانت مصحوبة بانخفاض التضخم، فيتعين علينا على الأقل أن نستعد لاحتمال أن يؤدي انحسار العولمة إلى العكس.
لاحتواء التضخم، يجب أن تكون سياسات البنوك المركزية أشد إحكاما، وهذا يعني تباطؤ النمو. قد يؤدي هذا أيضا إلى إبطاء التحول في الطلب نحو الطاقة الخضراء وتثبيط الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، وهو الاستثمار الذي من شأنه أن يؤدي في الأمد المتوسط إلى تخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري. في مواجهة هذا الاحتمال، ربما يجب أن تكون البنوك المركزية ذات التوجه الأخضر أكثر تسامحا بدرجة معقولة مع ارتفاع التضخم، لتسهيل التحول الأخضر.
الواقع أن أغلب القوى والديناميكيات التي نوقشت هنا تدفع نحو ارتفاع التضخم. صحيح أن الضغوط التضخمية قد تخف بسبب العرض الأرخص والأضخم، إذا زادت الإنتاجية نتيجة للتقدم التكنولوجي مثل تطبيق تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. لكن هذا أقرب إلى الأمل منه إلى الواقع الفعلي في هذه المرحلة.
لعل أعظم المخاوف يتمثل في صنع الظروف المؤدية إلى ارتفاع التضخم، على سبيل المثال، من خلال وقف الهجرة أو الإنفاق بلا قيود، حتى مع تآكل استقلال البنك المركزي. حدث هذا بانتظام في الماضي، ولم تكن العواقب سارة، ربما يكون لزاما علينا تعلم الدروس القديمة من جديد بالطريقة الصعبة.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.