صقور السياسة المالية في أمريكا يتراجعون عن مواقفهم
الحزب الجمهوري يلتزم صمتاً غريباً بشأن الديون الفيدرالية وصندوق الضمان الاجتماعي فيما تستحق الأمة الإجابة عن أسئلتها
أحياناً يكون اختبار ما يخرج عن أولويات حزب من الأحزاب السياسية هو أوضح السبل إلى فهم وإدراك النوايا الحقيقية لذلك الحزب.
هكذا نلاحظ أن أبرز ما يميز برنامج الحزب الجمهوري الذي نشر قبيل اجتماع الأسبوع الماضي في ميلووكي هو غياب أي إشارة تتعلق بما يلزم اتخاذه من إجراءات بشأن الديون الفيدرالية المتزايدة للولايات المتحدة، والتي وصلت الآن إلى 34.8 تريليون دولار.
هذا الغياب مثير للدهشة. إذا كنت تصدق المحافظين من صقور السياسة المالية، فلم تكن تلك السنوات الأربع الماضية من إدارة جو بايدن شيئاً دون مستوى الأزمة الوجودية. فقد دفع الجمهوريون الحكومة الفيدرالية مرتين إلى حافة تعثر كارثي في تغطية التزاماتها -مرة في 2021 وأخرى في2023 عبر التهديد بعدم التوافق مع الديمقراطيين وزيادة قدرة البلاد على الاقتراض، أو ما يعرف "بسقف الدين". وبعد الأزمة الأخيرة، خفضت مؤسسة "فيتش ريتينجز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من "AAA"، وهو أعلى تصنيف ائتماني، إلى "AA+"
بالفعل، أنهت لجنة الموازنة بمجلس النواب التي يسيطر عليها الجمهوريون العام الماضي بعقد جلسات استماع عديدة حول ضرورة تشكيل مفوضية مالية تتخذ في النهاية إجراءً ما لإحكام السيطرة على ديون البلاد المتزايدة.
كان من أول الاجراءات التي اتخذتها لجنة الموازنة في 2024 أن تقدمت بمشروع قانون لإنشاء هذه المفوضية.
الدين العام في برامج الحزب الجمهوري
هل مازلت غير مقتنع بأن ذلك قد يكون إجراءاً بسيطاً من إجراءات الرقابة والإشراف؟ ضع في حسبانك إذن أن كل برنامج للحزب الجمهوري صدر خلال القرن الحالي أشار إلى الدين الفيدرالي، باستثناء 2020، عندما أعاد الحزب تدوير برنامجه في 2016.
- في 2000، أشاد البرنامج بتخفيض الدين بوصفه إنجازاً للكونجرس السابق الذي سيطر عليه الجمهوريون.
- في 2004، عندما كان عجز الموازنة يرتفع بوتيرة سريعة، تبنى البرنامج سياسة "الدفع أولاً بأول" بهدف خفض الديون.
- في 2008، أوضح البرنامج أن ارتفاع الدين كان نتيجة أساسية لعملية التلاعب بالموازنة.
- في 2012 و2016، ألقى البرنامج باللوم على الديمقراطيين في ارتفاع الديون، زاعماً أن ذلك شكل خطراً على أمريكا.
هناك بالتأكيد دعوة إلى "استعادة التعقل المالي" و"الحد من الإسراف والتبديد في الإنفاق"، لكن لا توجد تفاصيل حول كيفية تحقيق تلك الأهداف. لذا، دعونا ننتقل إلى مشروع 2025، وهو عبارة عن خطة سياسية تقع في أكثر من 900 صفحة أعدتها مؤسسة التراث المحافظة "هيريتاج فاونديشن" (Heritage Foundation) تحت قيادة 2 من المعينين السابقين في إدارة ترمب. ينقسم البيان الكبير والمتشعب إلى فصول حسب الوكالات الفيدرالية الكبيرة مع تعليمات مفصلة لما يجب القيام به.
إغفال برنامج الضمان الاجتماعي
هنا أيضاً ما تظهر بوضوح تام بسبب غيابها، وهي الإشارة إلى برنامج الضمان الاجتماعي، الذي يعد إلى جانب برنامج الرعاية الطبية "ميديكير" أحد أكبر برنامجين للرعاية الاجتماعية في البلاد.
ستخصص الحكومة حوالي تريليون دولار أميركي لكبار السن المتقاعدين في هذا العام وحده.
على مدى عقود، كانت مؤسسة "هيريتاج فاونديشن" من دعاة إصلاح هذا البرنامج (وهو ما يعده البعض تعبيراً ملطفاً عن خفض مخصصاته). وقد خرّجت بعضاً من أكثر المدافعين عن خصخصة نظام الضمان الاجتماعي في السنوات الأولى من القرن الـ21، وهي فكرة كان خبراء هذه المؤسسة قد تقدموا بها منذ 1983. وتشمل بعض أفكارها التي عبرت عنها العام الماضي السماح للعمال بالانسحاب من نظام الضمان الاجتماعي وبدلاً من ذلك وضع مساهماتهم في حساب ادخار خاص، ورفع سن التقاعد-مرة أخرى-واستبدال المزايا المحسوبة بشكل فردي على أساس إيرادات مدى الحياة بالمزايا الثابتة.
كيف لا يذكر الجمهوريون الديون الفيدرالية في برنامج حزبهم الانتخابي، ولا تذكر مؤسسة "هيريتاج فاونديشن" نظام الضمان الاجتماعي في رؤيتها التفصيلية للتغييرات السياسية المطلوبة إذا استعاد الجمهوريون البيت الأبيض والسيطرة الكاملة على الكونجرس؟ إذا أخذنا الأسباب كلا على حدة، سنجد أنها منطقية إلى حد ما.
لماذا تجاهل الجمهوريون البرنامجين؟
برنامج الحزب الجمهوري-كما يتضح من استخدام الوثيقة للكلمات بحروف كبيرة – تأثر بدونالد ترمب، الذي جعل محور سياسته الاقتصادية التمديد الدائم لقانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017، الذي تنتهي صلاحيته العام المقبل.
من المتوقع أن يكلف أي تمديد للقانون أكثر من 4 تريليونات دولار، أي ضعف تكاليفه السابقة حتى الآن.
إن خفض الإيرادات الضريبية والتمويل بالعجز مع حالة توظيف كامل وتضخم مستمر في الاقتصاد يتناقض مع المسؤولية المالية، وسيؤدي إلى تضخم ديون الولايات المتحدة بشكل أكبر، وهو سبب وجيه لعدم طرح موضوع الاقتراض من الأساس.
أما بالنسبة إلى مشروع 2025، فقد كتبه الأشخاص الذين قد يأملون في العثور على عمل في إدارة ترمب الثانية، أو أن يكونوا في وضع يسمح لهم بالتأثير في سياساتها. لكن ترمب قال إن مزايا نظام الضمان الاجتماعي لن تُخفض-وهذا مذكور في برنامجه الانتخابي- ما يضعه على خلاف مع الموقف الذي طالما اتخذته مؤسسة "هيريتاج فاونديشن". وكان الصمت هو الخيار الوحيد.
صناعة سياسة كارثية
مع ذلك، ففي ظل إدارة ترمب، قد تتضافر هذه الأمور التي جرى التغافل عنها بوضوح في صناعة سياسة كارثية.
دعونا نفكر في الأمر. أدى تمديد التخفيضات الضريبية لعام 2017 إلى تضخم الدين والعجز إلى مستويات تاريخية كما هو متوقع.
لكن مع استمرار التمديد، يمكن للجمهوريين أن يغيروا وجهتهم ويعودوا إلى جذورهم المحافظة في السياسة المالية، ويطالبوا بكبح الديون الفيدرالية والعجز في نهاية المطاف.
يشترط القانون استثمار أموال صندوق الضمان الاجتماعي في سندات الخزانة-وهو يمثل ما يقرب من 3 تريليونات دولار من الديون-ويتجه البرنامج إلى إنفاق تريليوني دولار سنوياً.
هذا البرنامج كبير جداً بما لا يجعل منه هدفاً في معركة الديون. لكنه لن يجد كثيرا من المدافعين في صفه في إدارة تقع تحت تأثير خبراء السياسة الذين يعتزمون خصخصته.
لم يعد خارج نطاق الاحتمالات أن نتصور أن يأتي يوم يختفي فيه نظام الضمان الاجتماعي كما يعرفه الأمريكيون الآن.
بالطبع، هذا كله مجرد تخمين، أو استنتاج منطقي قائم على إغفال القضية أكثر من الإقرار بها. كل ما عليك هو أن تأخذ كلام ترمب على محمل الجد وهو سيناريو مستحيل، وربما لهذا السبب، في هذه الحالة على الأقل، يوصف بصمت مُخزٍ.
لكن من المهم الإشارة إلى تجاهل ذكر هذه القضايا. فالسياسة الاقتصادية مبنية على حقيقة جوهرية، وهي أن جميع السياسات تنطوي على المقايضة أو المساومة. فالاستثمارات تحتاج إلى تكاليف. وعام الانتخابات يبشر بنقاش وطني ويوفر فرصة للأمريكيين لتقييم هذه المساومات. هل يرغبون في زيادة الدين الفيدرالي بتريليونات الدولارات بسبب تخفيض الضرائب؟ أم هم على استعداد لتحمل تكاليف الضمان الاجتماعي؟ لن يتمكنوا من الإجابة عن هذه الأسئلة إذا لم تطرح عليهم.