الدين الأمريكي وعدم اليقين
نظرا لأهمية وتعقيد الموضوع رأيت التعامل معه في عمودين. في الأدبيات المالية يقال إن الفرق بين المخاطرة وعدم اليقين أن الأول قابل القياس بالرغم من الجدل حول قياس الأخطار، فمثلا تقاس المخاطرة بمدى التذبذب الذي يقاس إحصائيا بالتذبذب حول المتوسط في الرسم البياني من خلال معيار الانحراف القياسي، لكن بعض الماليين المعتبرين لا يأخذ بهذا المقياس لأن الخسارة واردة تحت أي سبب وأي ظرف لا يمكن توقعه.
والثاني حالة عدم اليقين التي عادة لا تقبل القياس لكن يجمع المتعاملون على أنها قد تسبب خسائر موجعه مثل التغيرات الجيوسياسية كالحروب و الكوارث الطبيعية، وبينهما ما يسمى بالوزة السوداء كما وصفها نسيم طالب بتلك المخاطرة قليلة الاحتمال ولكن المؤثرة، وفي نظري أهم مخاطرة وعدم يقين و وزة سوداء تجتمع في الدَين الأمريكي. فهو يجمع بين المخاطرة المالية في القياس أو بعض جوانبه- فنعرف حجمه وحتى تقدير معقول لمدى نموه ومركزيته في النظام المالي العالمي، ولكن لا نعرف مدى مخاطره وتوقيتها و تأثيراتها الواسعة.
يبلغ حجم الدين القومي في أمريكا $35.17 تريليون لكن لا أكاد أكمل هذا العمود ليرتفع بعدة ملايين، إذ يزيد بنحو تريليون كل 100 يوم تقريبا، مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكي عند 35 تريليون. الأسباب التي غالبا تذكر أن هناك سبب هيكلي سكاني حيث يصل 10 آلاف فرد سن 65 كل يوم حتى 2030، لذلك المطلوبات على الصناديق الاجتماعية والتقاعدية والصحية ضخم. السبب الآخر تكلفة الخدمات والنفقات الطبية في أمريكا عالية حتى مقارنة بالدول المتقدمة بنحو الضعف لكل فرد.
الثالث النقص في عوائد الضرائب لأن الشركات مؤثرة في القرار السياسي، فالفرق بين الإيرادات والإنفاق في 2023 $1.7 تريليون.
الأخير أن الإمبروطوريات عادة مكلفة حيث مصروفات الدفاع أعلى من جميع دول الناتو مجتمعة. تكلفة الدين وصلت 2.4 مليار يوميا. في 2008 كانت حصة أمريكا من الدين (سندات الخزينة) العالمي 28 % لترتفع في صيف 2024 إلى 44 %.
استمعت لما يقال في موسم الانتخابات ولم يكن هذا الموضوع في صلب أي برنامج اقتصادي، يذكر أحيانا لنقد طرف لآخر دون أي غوص جدي في الحلول و العواقب، لذلك ليس هناك حل في الأفق. السبب يعود لصعوبة التعامل معه بعد ما وصل لهذه المرحلة، إذ يصعب تذكير العامة بالحقيقية على أمل الفوز بالانتخابات، خاصة أنه أثناء إدارات متعاقبة من الحزبين كلها أسهمت في رفعه.
أكبر مقرض للحكومة الفيدرالية بنحو 27 % البنك الفيدرالي (المركزي). إقراض الأجانب (الاستثمار في السندات الأمريكية) مهم جدا من ناحية مركزية منظومة الدولار وسوق السندات وسياسة الفيدرالي لأسعار النقود ( نسبة الفائدة و منحناها)، ويسهم في خفض تكلفة الدين، ولكن ليس الأكبر وأيضا يوفر السوق الأكثر سيولة عالميا.
ربما أهم معيار حين تصل تكاليف الدين ( الفوائد على السندات) أعلى من إنفاق الحكومة على الصحة والتعليم. يمر العالم بحالة توازن دقيقة، لكن الإشكالية في تقدير أخطار الدين وخاصة لمن يكون دوره مركزي ليس ماليا واقتصاديا فحسب لكن في التوازن والاستقرار الجيوسياسي، إذ لا يمكن الفصل بين دور أمريكا الجيوسياسي وقوة اقتصادها ومركزية منظومة الدولار عالميا.
القياس صعب لأن المقارنة مع الدول الرائدة التي خسرت مركزياتها في حقب مضت وحتى الحضارات البائدة، لكن كما يذكرنا المؤرخون قد تأخذ الحضارات أكثر من قرن وهي في حالة تقهقر.
بل أن قياس تأثير الدين كما محاولة توقيت انقطاع السلك المطاطي في جزء من جزء في الثانية. لذلك يستسلم الجميع ويتصرف وكأن غدا مثل أمس على أمل أن لا تحل الكارثة في حاضره، كذلك عمليا ليس هناك بديل، لذلك الكل يتعامل ومسؤول عن الممكن الآن.
هناك حراك جيواقتصادي وتفكير لجميع الدول في أنماط علاقتها المالية وحتى خطوات عملية، خاصة بعد صعود الصين وتملل من بعض جوانب النفوذ الأمريكي مثل العقوبات وتوظيف الدولار ونظام المدفوعات كأسلحة. ولكن ليس هناك حل جذري يتعامل مع المخاطرة وعدم اليقين في آن واحد. السبب يعود لأن الجمع بينهما تعبير عن الصعوبة.
يقال في المنطق ما لا يمكن استمراره سيتوقف لا محالة، لكن الإشكالية في التوقيت. في الأخير لابد للنقاش إما أن يتموحر حول السائد ماليا وما تعود العالم عليه منذ الحرب الثانية وخصوصا بعد الحقبة المالية في نموذجها الجديد منذ 1971، أو نبدأ قراءت ومقارنات تاريخية مع مصير الحضارة الرومانية وكيف اندثرت. هل تتغلب أمريكا على نفسها وتعيد جدولة السياسات جذريا وبالتالي الدين؟ هل تتفاقم الأزمة وتصبح أمريكا أرجنتين أخرى أو روما أخرى؟ هل تستطيع أمريكا التغلب السياسي على نفسها وإعادة التوازن المالي كما حدث في عهد الرئيس كلنتون في التسعينيات؟ هل الطريق يمر بحالة تضخم غير مسبوقة سواء في طريق الحل أو الانكسار وتستطيع أمريكا تجديد نفسها أم تكون آخر محطة في فترة فوضى حتى يظهر نظام بديل؟.
موضوعيا لابد من التموضع لما سيأتي دون معرفة التوقيت! للدول المتوسطة والمنفتحة تجاريا لابد أن تكون سياساتها الاقتصادية وربما المالية في تطابق مقبول مع شركائها التجارين.
فمثلا تأخذ سنغافورة بسياسة صرف تعتمد فيها على سلة عملات مشتقة من حصص شركائها التجاريين، تمكنت سنغافورة بسبب اعتمادها على سياسة تجارية منفتحة وفاعلية عالية في الإدارة. عمليا تأخذ السعودية بخطوات احترازية واحترافية في قراءة الحالة، فمثلا النقاش مع مجموعةدول البركس ودول الأوبك بلس أمثلة على توسيع الأفق الاقتصادي. توجهات السعودية للاستثمارات داخليا خطوة لتعميق الاقتصاد الوطني لكي ترتفع قدراته على التعامل مع التحديات المقبلة.