جبهة "الرقائق" تستعر
لا تتوقف المواجهة الراهنة على الساحة العالمية من جهة صناعة الرقائق الإلكترونية، عند حجم الإنتاج ونوعيته، بل تشمل بصورة أساسية مستوى الاستثمارات التي تُضخ في هذا الميدان. فهذه الساحة صارت منذ سنوات عديدة جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي، لا سيما في البلدان الصناعية، التي تحاول تحقيق الاختراقات، سواء عبر الابتكارات المطورة لهذه "الرقائق"، أو من خلال الاستحواذ على الريادة في صناعة الآلات المنتجة لها. وبينما كانت في العقد الماضي المواجهات في ساحة "الرقائق، أقل حدة، أضحت الآن "شرسة"، لا سيما بعد دخول الحكومات على الخط، داعمة للصناعة، وموفرة لها الإمدادات المالية، إلى جانب سلسلة متجددة لا تنتهي من القوانين واللوائح التي تنظم عمليات تصدير هذا المنتج. بل وتشجع الشركات بنقل مراكزها إلى بلدانها الأصلية.
الصين، التي تعاني مشكلات الحصول على التكنولوجيا المصنعة لـ"الرقائق" أو "أشباه الموصلات"، صعدت في الآونة الأخيرة من تحديها للإجراءات المتخذة ضدها من جهة البلدان الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. فكما فعلت إدارة الرئيس جو بايدن في 2022، بضخ ما لا يقل عن 53 مليار دولار دعماً لهذه الصناعة، وفرت الحكومة الصينية 47 مليار دولار لدعم منتجي الرقائق في البر الصيني. وهذا الدعم يأتي ضمن الإستراتيجية التي أعلنها رئيس الصين شي جين بينج، التي تستهد بالدرجة الأولى، تحقيق الاكتفاء الذاتي، في ظل القيود الغربية المختلفة، إلى جانب نقطة مهمة للغاية، تحقيق ريادة مستقبلية في إنتاج "الرقائق" الأكثر تطوراً، وتلك التي تحاكي "الذكاء الاصطناعي"، علماً بأن بكين لا تزال بعيدة عن هذه الريادة، إلا أنها حققت قفزات لافتة بعض الشي.
الدعم الحكومي لصناعة "الرقائق"، لم يقتصر بالتأكيد على أكبر اقتصادين في العالم (الصين والولايات المتحدة). فقد انضمت كوريا الجنوبية إلى "كسيرة" الدعم هذه، وكذلك فعلت اليابان، بينما وضع الاتحاد الأوروبي هذه الصناعة على رأس أولوياتها التنموية، عبر التسهيلات والدعم، وفتح مزيد من الأسواق ضمن نطاق الاتحاد وخارجه. الصندوق الصيني الخاص، وفر بالفعل قوة دفع كبيرة لشركات البلاد المصنعة، كما أنه، دعم بمبالغ كبيرة فعلاً، عمليات تخزين معدات الرقائق الإلكترونية الدقيقة، في محاولات مستمرة للتغلب على العقوبات الأمريكية والأوروبية. فعلى سبيل المثال، أقنعت واشنطن الحكومة الهولندية قبل سنوات، بحظر تصدير هذه المعدات للصين، وكذلك فعلت بعض البلدان المتعاونة مع الولايات المتحدة في هذا المجال.
وفي كل الأحوال، لا تزال الصين متخلفة عن الولايات المتحدة بسنوات عدة في صناعة المعالجات، لكن مع الموجة الجديدة من الدعم، ونجاح بعض محاولات الالتفاف حول العقوبات، يمكن لبكين أن تقلص الفوارق الزمنية في السنوات القليلة المقبلة، خصوصاً إذا صح ما يتردد، من أن الشركات الصينية تمكنت من صناعة واحدة من أكثر أشباه الموصلات تقدماً حتى الآن. لكن النقطة المهمة الأخرى، تبقى في أن يتواصل الدعم على الساحة الصينية في السنوات المتبقية من العقد الحالي. علماً بأن "صندوق الدعم" الذي يطلق عليه "الصندوق الكبير"، يتمتع بإسهام أكبر 6 مصارف حكومية، بينها المصرفان الصناعي والتجاري الكبيران.
ومع ذلك، تبقى الخطوات الأمريكية تحديداً، أكثر تقدماً من ناحية الزمن والتطور التكنولوجي، فضلاً عن سيطرة واشنطن بصورة أو بأخرى على صناعة "الرقائق" في تايوان. بل إن أوروبا باتت تحقق قفزات نوعية أخرى جديدة، بما في ذلك إنشاء شركة "تي إس إم سي" التايوانية، التي تستحوذ على إنتاج 50 % من "الرقائق" مصنعاً لها في قلب القارة العجوز. لا شك في أن المنافسة في السنوات المقبلة، ستكون أقوى بكثير مما هي عليه الآن.