اقتصاد عالمي في منطقة رمادية بين الفائدة والتضخم
شكّل تموضع أبرز مؤشرات الأداء الاقتصادي لأغلب الاقتصادات حول العالم عند مستوياتها الراهنة، ما يشبه وقوفها وسط منطقة رمادية يصعب معها تحديد اتجاه محدد لأيٍّ من السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية على وجه الخصوص، ذلك أن أغلب الاقتصادات المتقدمة والكبرى تقف في الفترة الراهنة على أرضيةٍ غير مستقرةٍ، بدءاً من الولايات المتحدة التي تواجه تفاقم عجزها الحكومي والتجاري خاصةً مقابل الصين، مروراً بالصين التي لم تتمكن بعد من الخروج من أزمة قطاعها العقاري، وصولاً إلى منطقة اليورو التي تعج بالأزمات المالية والاقتصادية المختلفة عدا صداعها المستمر من الحرب الروسية الأوكرانية.
نشأت الحيرة والضبابية على أغلب رؤى راسمي السياسات الاقتصادية حول العالم من عديدٍ من المصادر المختلفة، لعل من أبرزها أن التضخم على الرغم من انكماشه طوال العامين الماضيين، فإنّه لم يستقر بعد عند مستوياته المستهدفة، في الوقت ذاته الذي لم يتأكّد ركود الاقتصاد العالمي كما كان متوقعاً خلال عامٍ مضى، وأنّه أيضاً ليس في الموقع أو الاتجاه المرحب به لتوقع ارتفاعه وتصاعده، وقس على ذلك معدلات البطالة التي بدأت في الارتفاع منذ مطلع العام الجاري، لكنها لم تصل بعد إلى أعلى من المستويات المهددة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بينما مؤشرات الأداء المالي للماليات الحكومية في أغلب الدول (العجز المالي، الدين السيادي)، تظل وحيدةً التي أكّدت وتؤكّد فترةً بعد فترة ذهابها نحو أعلى مستويات المخاطرة على جميع المستويات.
وزاد من أخطارها استقرار أسعار الفائدة خلال الفترة الراهنة عند أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقدين من الزمن، على الرغم من بدء تراجعها أخيرا بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بنهاية الأسبوع الماضي، فإنّ معدلات أسواق السندات العالمية بآجالها المختلفة ما زالت تعبّر عن ارتفاعها، بما يعبّر عن ارتفاع تكاليف خدمة الديون السيادية على أغلب الحكومات في الاقتصادات المتقدمة والكبرى.
يؤكد وجود الاقتصاد العالمي وسط منطقته الرمادية الراهنة، خاصةً في ظل تصاعد وتيرة الصراعات الجيوسياسية حول العالم واتساع نطاقها كما يشهده العالم اليوم، إضافةً إلى اقتراب حسم الانتخابات الأمريكية خلال أقل من شهرين من تاريخه، على أن التحديات والأخطار أمام البنوك المركزية أولاً والأسواق والمستثمرين ثانياً آخذةٌ في الصعود والسخونة أكثر من الهدوء والاستقرار، وهو ما يعني مزيداً من ضبابية الرؤية أمام الفريقين، وفي الوقت ذاته لم يظهر ما يشير حتى تاريخه إلى تعزيز استقرار الأرضية التي تقف عليها الاقتصادات حول العالم على مستوى النمو ونشاط أسواق العمل وقوة الإنفاق الاستهلاكي، التي يسهم وجودها وتنامي قدرتها على تعزيز النمو للاقتصاد والتجاري العالميين، وهو ما أكّد صندوق النقد الدولي أخيراً على عدم تحققه ولا يبدو في الأفق القريب رؤيته، نظير التحديات والأخطار التي عبّر عنها في توقعاته الأخيرة،
وهذا كله تضعه الأسواق والمستثمرين في الحسبان، وقبلهما البنوك المركزية التي وإن أبدت مرونةً في خصوص تحديدها لأسعار الفائدة، قياساً على تباطؤ التضخم وضرورة تحفيز النمو الاقتصادي وأسواق العمل، فإنّها لا تزال تتمسك بكثيرٍ من الحيطة والحذر تجاه التضخم وأخطاره، ولهذا لم يتجاوز خفضها للفائدة سقف الـ10% من حجم الرفع الذي قامت به طوال الـ3 أعوامٍ الماضية.
فلا يزال هناك 90% من حجم رفع الفائدة قائماً بثقله في وجه الجميع، وهو ما عبّرت عنه أسواق السندات العالمية وما زال يمثل مصداً لنزعة أغلب الأسواق نحو التفاؤل والتصاعد، كل هذا يدفع الجميع نحو مزيد من الترقّب والحذر أكثر منه لأي اتجاهٍ آخر، ويعني البقاء لفترةٍ قد تمتد إلى نحو عامين مقبلين أو أكثر وسط المنطقة الرمادية الراهنة، ما لم يظهر كمؤشراتٍ حقيقيةٍ على الخروج منها؛ إمّا صعوداً إذا ما جاءت إيجابية، أو هبوطاً إذا ما جاءت تلك المؤشرات سلبيةً.