لماذا يحتاج العالم إلى تغيير جذري في أنماط الاستهلاك؟

يتناول الهدف 12 من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة ترشيد واستدامة الاستهلاك والإنتاج العالمي بهدف الحفاظ على الموارد للأجيال القادمة. وتشير تقديرات المنظمة إلى أن العالم يهدر سنويًا نحو 931 مليون طن من الغذاء بسبب السلوكيات الاستهلاكية غير الرشيدة. عملية الاستهلاك المفرط لا تتوقف عند الغذاء إنما تمتد لمختلف السلع، وتؤدي لآثار اقتصادية سلبية تبدأ من إهدار الموارد وتمتد إلى آثار اقتصادية غير مباشرة، تترجم في تآكل مستويات الادخار في الدول وتأثر الاستثمار.


السلوكيات الاستهلاكية يفسرها عديد من الأسباب، مثل العادات والتقاليد والموروث الشعبي. إضافة إلى الدور الذي لعبته التكنولوجيا والمنصات الرقمية في تغذية تلك العادات، مع انتشار الإنترنت ومنصات التجارة الإلكترونية وظاهرة صناع المحتوى والمؤثرين التي تغذي نهم الاستهلاك بشكل متزايد ليس فقط للقادرين والأغنياء إنما لمتوسطي ومحدودي الدخل بسبب الرغبة في التقليد.
ونظرًا لأن الجزء الأكبر من استهلاك الأفراد يكون عن طريق الاستدانة. فإن بيانات معهد التمويل الدولية (IIF) تكشف التطور الكبير في ديون الأسر في العالم، حيث وصل حجم ديون الأسر بنهاية الربع الأول من 2024 إلى 59.1 تريليون دولار أو ما يعادل 61.1% من الناتج المحلي العالمي. ويبلغ نصيب الأسواق الناشئة من تلك الديون نحو 19.2 تريليون دولار.


على مستوى الدول، فقد شكلت نسبة ديون الأسر في أكبر اقتصاد في العالم "الولايات المتحدة" نحو 71.8% من الناتج المحلي بحلول الربع الأول من 2024، بينما وصلت في الصين خلال نفس الفترة إلى 63.7%. على المستوى العربي فقد شكلت نسبة ديون الأسر في السعودية بنهاية الربع الأول من 2024 نحو 31.6% من الناتج المحلي، بينما وصلت في الإمارات إلى 22.7% خلال نفس الفترة.


وعلى الرغم من أهمية إنفاق المستهلكين للاقتصاد ودوره في تنشيط الطلب إلا أن المستويات المرتفعة يصاحبها تأثير سلبي. على سبيل المثال في منطقة الخليج العربي يؤثر الإنفاق المرتفع على الغذاء بالسلب في الاقتصاد، نظرًا للاعتماد على استيراد الجزء الأكبر من الاحتياجات الغذائية من الخارج. هنا الاستهلاك لا يفيد النشاط الاقتصادي المحلي إنما يشكل ضغوطا على الميزان التجاري والاحتياطيات الدولية.
الإفراط في الاستهلاك نتيجة السلوكيات الخاطئة التي توجد مستويات مرتفعة من الإهدار تدفعنا لدراسة "تكلفة الفرصة البديلة". ماذا لو تم توجيه ذلك الإسراف إلى مدخرات تمول الاستثمارات العامة والخاصة في مختلف القطاعات. فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي فإن نسبة المدخرات في العالم إلى الناتج المحلي انخفضت من 28.1% في 2021 لتصل بحلول 2023 إلى 26.6%. الانخفاض في الادخار نتج عنه انخفاض في معدلات الاستثمار، حيث تراجع متوسط الاستثمار العالمي كنسبة من الناتج المحلي إلى 26.6% في 2023 مقارنة بنحو 27.2% في 2021.


الظروف العالمية المحطية أيضا تفرض على العالم اتخاذ إجراءات وتبني سياسات تسهم في الحد من سلوكيات الاستهلاك وبالأخص في مجال السلع الغذائية. حيث يعاني العالم تغيرات مناخية قاسية مثل الجفاف والفيضانات والارتفاع في درجات الحرارة، الأمر الذي يؤثر في إنتاج عديد من المحاصيل التي تشكل نسبة مهمة من سلة الغذاء العالمية. إضافة إلى أن التوترات الجيوسياسية التي تضرب أهم مناطق إنتاج الغذاء في العالم مثل روسيا وأوكرانيا تهدد بفقدان العالم موردا غذائيا مهما في السنوات المقبلة مع ارتفاع حدة الصراع.


تلك الضغوط تفرض على العالم ضرورة اتخاذ سياسات تسهم في كبح جماح الاستهلاك المفرط. على أن تشمل تلك السياسات مختلف الجوانب بداية من الحملات التوعوية للمستهلكين للمساهمة في تغيير سلوكهم، وصولًا إلى السياسات الاقتصادية الحكومية الهادفة إلى توفير بدائل للادخار والاستثمار.
ختامًا، فإن العالم أصبح يعيش أنماطا استهلاكية غير مسبوقة كنتيجة مباشرة لانتشار التكنولوجيا والمنصات الرقمية والتجارة الإلكترونية، لكن الاستمرار في تلك الأنماط بتك الوتيرة المتسارعة يهدد بكوراث تصيب الاقتصاد العالمي وتؤدي إلى خلل في هيكل إدارة الموارد العالمية.


الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي