العولمة المفرطة وإفقار الجار اقتصاديا

مع لجوء كل الدول الـمُـتاجِـرة الكبرى على نحو متزايد إلى العمل الأحادي الجانب لتعزيز أهدافها الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، والأمنية، يحتاج الاقتصاد العالمي بشدة إلى إطار معياري واضح لتحديد قواعد الطريق. ولعل نقطة الانطلاق المفيدة تتمثل في اتفاق الجميع من حيث المبدأ على عدم نشر سياسات إفقار الجار.
قد يبدو هذا معقولا، لكن هل من الممكن تطبيقه عمليا؟ ألا تعتمد الدول على مثل هذه السياسات كثيرا إلى الحد الذي يجعل من غير الممكن إقناعها بتغيير أساليبها؟
في واقع الأمر، كلا، هي ليست كذلك. والتصور أنها كذلك تمتد جذوره إلى خلط إدراكي بين السياسات التي تُـنـتِـج تأثيرات جانبية سلبية تمتد عبر الحدود والسياسات الرامية إلى إفقار الجار حقا. الواقع أنه من غير الـمُـجدي والـهَـدّام محاولة تهذيب كل السياسات من النوع الأول، ما يدعو إلى التفاؤل أن أفعال إفقار الجار لا تشكل سوى مجموعة فرعية صغيرة من مثل هذه السياسات.
لقد تخبطت العولمة المفرطة إلى حد كبير بسبب طموحها إلى المبالغة في تنظيم السياسات التي تنتج تأثيرات جانبية دولية.
بالتركيز على السياسات التي تُـفـقِـر الجيران حقا يصبح بوسعنا استهداف المصدر الحقيقي للمشكلة وتحقيق مزيد من التقدم في المفاوضات الدولية.
لنتأمل هنا سياستين على وجه الخصوص.
أولا، عندما تدعم الحكومة الصينية البحث والتطوير الذي يعزز قدرة الصين التنافسية في منتجات التكنولوجيا الفائقة ويخفض أسعارها في الأسواق العالمية، تتضرر الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة، لأن هذه مجالات ميزتها النسبية. لكن رغم الضرر، لا يجوز لنا أن نعد أنه من المناسب أو اللائق أن نطلب من الصين إزالة مثل إعانات الدعم هذه، لأن حدسنا يُـنـبـئـنا أن دعم البحث والتطوير أداة مشروعة لتعزيز النمو الاقتصادي، حتى لو تكبد آخرون خسائر.
تتلخص السياسة الثانية في حظر تصدير العناصر الأرضية النادرة أو غيرها من المعادن الحيوية التي تُـعَـد الصين الـمُـوَرِّد العالمي الرئيس لها.
تستفيد الصين من زيادة أسعار هذه العناصر في الأسواق العالمية وجعل مُـصَدِّريها أكثر قدرة على المنافسة، نظرا لقدرتها على الوصول إلى المدخلات الأرخص. لكن هذا مثال واضح على سياسة إفقار الجار. ذلك أن مكاسب الصين تأتي نتيجة ممارسة قوة احتكارية عالمية تفرض الخسائر على منتجين أجانب.
تندرج السياسة ضمن فئة إفقار الجار عندما لا تتاح الفائدة التي تعود منها على الاقتصاد المحلي إلا من خلال الضرر الذي تُـلـحِـقه بآخرين.
وقد صاغت جوان روبنسون هذا المصطلح في ثلاثينيات القرن الـ20 لوصف سياسات مثل خفض القيمة التنافسي، التي تعمل في حالة البطالة المنتشرة على تحويل العمالة من بلدان أجنبية إلى الاقتصاد المحلي، وتكون سياسات إفقار الجار في عموم الأمر سلبية المحصلة للعالم إجمالا.
عندما تَـسـتَـهدِف السياسات الصناعية على النحو المناسب العوامل الخارجية وإخفاقات السوق ــ كما في حالة إعانات الدعم الخضراء ــ فإنها لا تشكل ممارسة تثير القلق. علاوة على ذلك، ففي حين يمكننا إبداء مخاوف مشروعة بشأن حالات لا تُـلَـبى فيها هذه الشروط، تظل حقيقة قائمة مفادها أن تكاليف السياسات الصناعية غير الفعّالة تؤثر في الداخل في المقام الأول.
يُـشَـكِّـل التمييز بين العدد الضئيل من تدابير إفقار الجار ومجموعة واسعة من السياسات الأخرى التي تُـوَلِّـد تأثيرات عابرة للحدود خطوة أولى مهمة نحو تخفيف التوترات التجارية. والاهتمام بذلك من شأنه أن يسمح للمفاوضات الدولية بالتركيز على المشكلات الحقيقية، ما يترك للحكومات حرية ملاحقة أهداف سياسية مشروعة في الداخل.
إن العمل نحو عالَم من مساعدة الذات هو إلى حد كبير اقتصاد سليم وسياسة موفقة.

خاص بـ "الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي