دول نهضت بعد الحروب والثورات .. هل تلحق سورية بقطار المعجزات الاقتصادية؟
فوجئت الأم بطفلها يركض نحو البيت ويشير بيديه إلى الناحية الأخرى، وقبل أن تسأله عن السبب رأت بعينيها الشاحنات الكبيرة محملة بالبضائع فزاد اندهاشها، وركضت هي الأخرى ناحية السيارات، في تلك اللحظة كان كل أهالي قرية نصيب بدرعا السورية يفعلون الشيء نفسه، وما هي إلا دقائق حتى تأكد الجميع أن الحلم الذي انتظروه طويلًا قد تحقق، فأخيرًا تم فتح معبر جابر الحدودي مع الأردن، وتلك البضائع هي بشائر الخير التي يعتمد عليها السكان في تجارتهم منذ أن كان المعبر بوابة لقوافل نجد والحجاز منذ عقود طويلة.
فتح معبر جابر الحدودي جاء بعد أيام قليلة من سقوط بشار الأسد وإلغاء الجهات السورية لأي رسوم على البضائع، ما دفع السلطات الأردنية إلى التأكيد أن الحركة التجارية ستزداد خلال الفترة المقبلة مع تدفق مئات الحاويات، لكن هذا لم يكن إلا أول الغيث، فخلال 10 أيام فقط من تحرير دمشق أعلن مصرف سورية المركزي إعادة تشغيل أجهزة الصراف الآلي مع إضافة خدمات الدفع الإلكتروني، كما قفزت الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي بنسبة تصل إلى 45% مسجلة استقرار نسبي، إضافة إلى تشغيل جزئي للمطارات الجوية وهو ما يعني ضخ الدماء في شرايين الاقتصاد السوري.
رغم ذلك، فإن تكلفة إعادة سورية كما كانت قبل 2011 وصلت 900 مليار دولار وفق تقديرات الجامعة العربية عام 2023، وإن كان هذا الرقم الضخم يجعل من عودة دمشق أمر صعب للغاية، لكن الوقائع تشير إلى أن كثيرًا من الدول تعرضت لمصير مشابه وتمكنت من النهوض مجددًا، بل وبعض الدول تمكنت من أن تكون في مصاف الدول المتقدمة بعد تدمير كامل.
أبرز الأمثلة على ذلك، دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي وصل حجم خسائرها المادية 4.7 تريليون دولار، وكانت ألمانيا في مقدمة الدول المنهارة تمامًا بعد أن خسرت الحرب، ولكي تنهض اعتمدت أولًا على خطة مارشال التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال 1947 لإعادة إعمار دول أوروبا، وبموجب تلك الخطة تم إسقاط نصف ديون ألمانيا، كما حصلت على معونات من دول كثيرة.
بالتوازي مع ذلك، وضعت ألمانيا خطة قاسية لنهضتها شملت تحديد حصة غذائية لكل فرد لا تزيد على 1500 سعرة حرارية في اليوم إلى جانب ضبط الأسعار والخدمات، كما سمحت لاقتصاديين مثل والتر أوكن ولودفينغ إيرهارت أن ينفذوا أفكارهم التي وضعت نظام استثماري قوي أسهم في نمو الدولة التي احتلت عام 1989 المرتبة الثالثة في أقوى اقتصادات العالم بعد اليابان وأمريكا، وظلت محافظة على مكانتها، إذ تعد الأقوى أوروبيا باقتصاد بلغت قيمته 4.46 تريليون دولار، حسب إحصاءات البنك الدولي في 2024.
أما اليابان التي خسرت هي الأخرى الحرب العالمية الثانية لكنها لم تنعم بمعونات "مارشال"، فاعتمدت على خطة مختلفة تجسدت في إلغاء بعض القوانين مثل منع الهجرة من الريف إلى المدن، كما أعادت تنظيم الموارد وتحولت من الإنتاج الزراعي إلى التصنيع، فاعتمدت على صناعات بعينها مثل السيارات والتكنولوجيا، وبواسطة ذلك تمكنت من أن تنهض سريعا، وهو ما دلل عليه دخل الفرد الياباني إذ كان عام 1945 سنة استسلام بلاده 1346 دولار سنويا، وتضاعف 200% بمجرد حلول 1956.
الباحث الياباني "فوميؤ هاياشي" يوضح في دراسته بجامعة هارفارد، أن سبب النمو المتسارع لليابان لم يتعلق فقط بإعادة تنظيم الموارد لكن باستيعاب التكنولوجيا الغربية جيدًا وتطويعها في مختلف الصناعات، وهو ما أحدث الطفرة بعد أن ظلت اليابان بعيدة لعدة عقود عن تلك التكنولوجيا، كما أسهمت العلاقات الخارجية الجيدة لاحقًا في توسيع حجم التجارة والاستثمار حتى احتلت طوكيو المرتبة الثانية عالميًا في حجم الاقتصاد في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تتراجع إلى المرتبة الرابعة في الوقت الحالي باقتصاد تبلغ قيمته 4.2 تريليون دولار.
من بلد ناتجه المحلي 203 مليار دولار عام 1983 إلى دولة ناتجها 1.76 تريليون دولار في 2023 وعضو في مجموعة العشرين، هكذا كان رحلة كوريا الجنوبية التي خاضت حروب طويلة مع اليابان حتى 1945 ثم انفصلت عن كوريا الشمالية، لتجد نفسها عام 1963 ضمن أفقر دول آسيا، لكنها لم تستسلم فسرعان ما وضعت إستراتيجية اعتمدت فيها على تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية والاستيراد من الدول المجاورة، وبالتزامن استثمرت في المواطنين الذين اتقنوا مهن كثيرة ما جعل كوريا الجنوبية بلد عمالة رخيصة ودقيقة، وهما صفتان فتحا الأبواب أمام شركات البناء الكورية التي فازت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بعديد من المشاريع الكبرى في الشرق الأوسط.
كما اعتمدت كوريا الجنوبية على الأبحاث العلمية وتمويلها وفي الفترة من 1996-2015، كانت البلد الأكبر عالميًا من حيث كثافة الأبحاث والتطوير متفوقة على أمريكا، كما دعمت أيضًا بيئة الأعمال وتحفيز الاستثمار في مجالات الابتكار والتكنولوجيا من أجل جذب رأس المال الأجنبي الذي دفع بكوريا في النهاية إلى احتلال المركز الرابع في مؤشر سهولة ممارس الأعمال 2018.
الدول السابقة نماذج من قائمة تضم دول أخرى مثل سنغافورة التي اعتمدت على التعليم للنهوض بعد استقلالها 1965، وكذلك ماليزيا والبرازيل التي تمكنت من خلال إعادة توزيع الثروات أن تنهض من جديد، وإذا كان معظم تلك الدول لا تتمتع بموارد طبيعية كبيرة، فإن سوريا قادرة على العودة في وقت أسرع خاصة أنها تحتوي على احتياطي نفط يصل إلى 2.5 مليار برميل ما يوازي 0.2% من الإنتاج العالمي، إلى جانب احتياطيات الغاز والفوسفات والقطاع السياحي الذي سجل أرباح 8.4 مليار دولار في 2010، ناهيك عن الدعم العربي الذي أعلن منذ اليوم الأول أن تحسين حياة السوريين أولوية لدى الجميع.