تراجع القدرة على تحمل تكلفة السكن
أدت الجائحة وما تلاها من عودة التضخم إلى أزمة عالمية في القدرة على تحمل تكلفة السكن هي الأسوأ على الإطلاق منذ ما يزيد على 10 سنوات. وقد امتدت الأزمة إلى بعض أكبر الاقتصادات المتقدمة وأسهمت في اتساع دائرة الغضب والاستياء إزاء الأوضاع الاقتصادية.
وقد تراجعت القدرة على تحمل تكلفة السكن في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا وألمانيا والبرتغال وسويسرا. وفي المتوسط، أصبحت المساكن اليوم بعيدة عن المتناول في مختلف البلدان مقارنة بما كانت عليه أثناء فقاعة أسعار المساكن التي سبقت الأزمة المالية العالمية في الفترة بين عامي 2007 و2008، وفقا لمجموعة بيانات أُعدت حديثا.
وبذلك أصبح الإسكان على رأس قائمة القضايا الملحة التي تواجه الأسر، قبل الرعاية الصحية والتعليم، وفقا لمسوح استطلاع الرأي العام في جميع أنحاء العالم (دراسة Romei and Fleming 2024). وهو من القضايا المحورية التي تواجه صناع السياسات في عديد من البلدان، نظرا للدور الرئيسي لقطاع الإسكان في النشاط الاقتصادي. وعلى عكس الأصول الأخرى، هناك مكون اجتماعي للسكن، فغالبا ما يعتبر الفرد امتلاك سكن حقا من حقوق المواطنة، كما يمكن في الوقت نفسه أن يكون الاستثمار في المساكن بدافع المضاربة، ما يؤدي إلى رفع الأسعار. وتعكس أزمة القدرة على تحمل تكلفة السكن ارتفاع تكاليف الاقتراض بعد أن رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة لمواجهة التضخم. وفي الوقت ذاته، أدى نقص المساكن وقوة الطلب عليها نتيجة ارتفاع معدل تكوين الأسر إلى استمرار ظاهرة ارتفاع الأسعار. وأصبحت المشكلات الهيكلية طويلة الأمد في سوق الإسكان العالمية محل تركيز كبير في اقتصاد ما بعد الجائحة المعقد.
إن القدرة على تحمل تكلفة السكن مفهوم بالغ الأهمية، لكنه صعب الفهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بإجراء مقارنات بين البلدان ذات أسواق الإسكان وهياكل التمويل شديدة الاختلاف. وحتى الآن، ركزت المؤشرات الأكثر استخداما على المفهوم الأساسي المنطقي للتكلفة النسبية للسكن، مثل نسبة السعر إلى الدخل أو الإنفاق على السكن كنسبة من الدخل.
وهذه المؤشرات، رغم فائدتها، لا تفسر بالكامل ديناميكيات سوق القروض العقارية وخصائص وحدات الإسكان والأسر العادية. وقد سعيت أنا وزميلَي في هذا البحث نينا بيلجانوفيسكا وشينكزو فو إلى سد هذه الفجوة من خلال وضع مجموعة جديدة من البيانات القُطْرية المقارنة باستخدام مؤشر للقدرة على تحمل تكلفة السكن.
ويركز المنهج على قدرة الأسرة على سداد أقساط قرض عقاري بصورة منتظمة لتمويل شراء مسكن عادي تشغله أسرة ذات حجم عادي دون الاقتصاد في الاحتياجات الأساسية الأخرى. وتحديدا، يحسب مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن نسبة الدخل الفعلي للأسرة إلى مستوى الدخل المطلوب للحصول على قرض عقاري عادي. ويتيح ذلك رؤية أكثر تفصيلا حول القدرة على تحمل تكلفة السكن وأداة مكملة للمقاييس الأخرى. وإذا تجاوز مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن 100، يعني ذلك أن أسعار المساكن أقرب إلى المتناول، وإذا قل عن 100، يعني ذلك انخفاض القدرة على تحمل التكلفة.
قمنا بحساب المؤشر في 40 بلدا على مدار الـ50 عاما الماضية. وأبرز ما لاحظناه هو التدهور المفاجئ في القدرة على تحمل التكلفة على مدى العامين الماضيين. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر اقتصادات العالم، تراجعت القدرة على تحمل تكلفة السكن من نحو 150 في عام 2021 إلى منتصف الثمانينات في عام 2024. وفي المملكة المتحدة، انخفضت قراءات مؤشر القدرة على تحمل تكلفة السكن من 105 في عام 2021 إلى ما أوائل السبعينات في عام 2024.
وشهدت النمسا وكندا وهنغاريا وبولندا والبرتغال وتركيا وبلدان البلطيق انخفاضات مماثلة. ويمثل ذلك تحولا مفاجئا في القدرة على تحمل التكلفة التي تحسنت بوجه عام على مدى العقود الماضية. وكما حدث مع تجدد النوبات التضخمية، كان لهذا التحول الحاد تأثير نفسي هائل في عديد من الأسر.
كيف حدث ذلك؟ خلال فترة الركود المصاحب لجائحة كوفيد 19، ارتفعت أسعار المساكن في كثير من البلدان، خلافا لما حدث خلال فترات الهبوط الاقتصادي السابقة التي عادة ما شهدت تراجعا في أسواق الإسكان. ونتج ذلك عن مزيج من عوامل العرض والطلب، بما في ذلك القيود على أعمال البناء المرتبطة بتدابير الإغلاق. وقد أثار الارتفاع السريع غير المتوقع في أسعار المساكن مخاوف إزاء إجراء تصحيح وشيك.
ومع بدء البنوك المركزية عبر أنحاء العالم في رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، توقع كثير من المراقبين حدوث هذا التصحيح أخيرا. وقد انخفضت أسعار المساكن إلى حد ما بالفعل، لكن بدرجة أقل بكثير من المتوقع، حتى مع ارتفاع أسعار الفائدة على القروض العقارية.