"بتكوين" ليست لا شيء وليست شيئاً في آن واحد

كتب أحد القراء منذ بضعة أسابيع في رسالة إلكترونية منتقداً فيها موقفنا من "بتكوين"، الذي قال إنه "حذر ومشكك وسلبي صرف". 

دافع صاحب المداخلة الذي لم يرغب بأن يكشف عن اسمه عن وجهة نظره، مستشهداً بسلسلة تدوينات كتبها ألن فارينغتون، الذي سبق أن شغل منصب مدير إداري في صندوق "بايلي غيفورد آند كو" (Baillie Gifford & Co)، وقد خص مثالاً واحداً بالاهتمام:

طرح الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين سؤالاً على صديق له غير مرة، فقال: "أخبرني، لماذا يرى الناس أنه من المنطقي أكثر الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض بدل أن تكون الأرض هي التي تدور حول الشمس؟". أجابه صديقه: "ظاهرياً تبدو الشمس تدور حول الأرض". فرد فيتغنشتاين سائلاً: "كيف سيكون المشهد لو بدا أن الأرض هي التي تدور حول الشمس؟".

حاجج القارئ ببلاغة بأن التحيزات الراسخة قد تمنعنا من رؤية نشوء بديل رقمي عالمي حقيقي للعملة الورقية. رداً على ما قال، اخترت الاستشهاد باقتباس آخر من الفيلسوف النمساوي، "بتكوين" كما أرى "ليست شيئاً، لكنها ليست لا شيء".

المشهد من لا مكان

ينظر مؤيدو "بتكوين" إلى ارتفاع قيمتها إلى 100 ألف دولار الشهر الماضي على أنه انتصار لولائهم لقضية العملات المشفرة. لا يمكن إنكار النجاح الباهر لصناديق المؤشرات المتداولة الفورية الخاصة بـ"بتكوين"، إذ تمكّن "صندوق آي شيرز بتكوين ترست" (iShares Bitcoin Trust ETF) المتداول التابع لشركة "بلاك روك"، وهو أكبرها، من جمع 53 مليار دولار منذ إطلاقه قبل عام. وفيما تعثرت معظم محاولات إنشاء عملات رقمية خاصة بالبنوك المركزية، تزايد تقبّل مديري الأصول التقليديين لعملات مثل "تيثر" و"إيثريوم "وأشباههما.

تكمن مشكلتي مع هذه الفئة الكاملة من الأصول -وأستخدم مصطلح "أصول" بتحفظ- في أنه من المستحيل مقاربتها انطلاقاً مما وصفه الفيلسوف الآخر توماس نيغل بـ"المشهد من لا مكان".

في كتابه الصادر عام 1986، أشار نيغل إلى أنه لا يمكن فهم حقيقة العالم إلا من خلال الجمع بين وجهة نظرنا الذاتية الشخصية، أو المشهد من حيث نقف، مع منظور عام موضوعي أسمى، أو "المشهد من لا مكان". لكن فيما خصّ "بتكوين" وشبيهاتها، لا يمكن تحقيق النوع الثاني من الرؤية.

في حالة الشمس والأرض، وأي منهما تدور حول الأخرى، قد يبدو لشخص موجود على الأرض أن النجم هو من يدور حول الكوكب، بينما يمكن لشخص على المريخ مثلاً أن يدرك الحقيقة فوراً.

يمكن للمتداول الذي يسعى لتحديد القيمة الصحيحة لسندات الخزانة لمدة 10 سنوات، أن يقيّم معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة وتوقعات التضخم والآفاق الجيوسياسية وسلوك المستثمرين الآخرين، بالإضافة إلى مجموعة من الوقائع الأخرى، ليقرر ما إذا كان سيشتري أو يبيع بالسعر الحالي. 

ولكن مراقب العملات المشفرة الذي يحاول تطبيق الأمر نفسه على "بتكوين"، سيضطر للاعتماد حصرياً على سلوكيات المشاركين الآخرين ليحكم إذا ما كانت قيمة الوحدة الرقمية سترتفع أو تنخفض، فهي لا ترتبط بأي شيء غير نبض السوق.

بتكوين هي الجاذبية

حاول فارينغتون في سلسلة التدوينات المشار إليها أعلاه الإجابة على السؤال حول ما يمكن اعتباره ركيزة للتقييم. 

أعتقد أن القول بأن سعر "بتكوين" هو أساسياتها ليس دقيقاً، ولكن لا شك أن السعر من المفاعيل التي تعكس الأساسيات بقدر كبير، فكلما ارتفع السعر، ارتفعت الأساسيات. ويجب أن نرقب أن الأساسيات تنخفض أيضاً مع تراجع السعر. إن الهجوم المستمر الذي يدفع السعر للانخفاض لفترة طويلة يمثل أكبر خطر على الإطلاق.

كانت "بتكوين" في أضعف حالاتها حين كانت صغيرةً، لكن ضعفها انحسر مع مرور الزمن. تشبه "بتكوين" الثقب الأسود الذي يجذب القيمة الاصطناعية غير المستدامة ويحتجزها داخله، وكلما زاد حجمه، ازدادت قوة جذبه. إن "بتكوين" هي الجاذبية.

اقرأ تلك الفقرة مجدداً، ثم استبدل كلمة "بتكوين" بالذهب أو الدولار أو النفط أو أي أوراق مالية متداولة، وآمل أن تتوصل إلى نفس استنتاجي وهو: ما تلك إلا حجة ضعيفة في أفضل أحوالها أو هراء مقنّع في أسوئها.

يجب أن يكون الطلب، أو غيابه، قائماً على حقائق صلبة، وعلى عوامل خارجية محفزة أو أسباب منطقية لاعتباره أساساً.

دلالة التقلبات

مفهوم الانعكاس الذي يتحدث عنه فارينغتون ينسف الفكرة القائلة إن السعر يشكل معرفةً عندما يتعلق الأمر بالعملات المشفرة. ويجوز لي القول إن التقلبات السعرية اليومية الحادة في "بتكوين" مقارنةً باليورو، على سبيل المثال، هي دليل على طبيعتها المتفلتة.

في حين أنه لا يمكن اعتبار التقلب بحد ذاته أمراً جيداً أو سيئاً، فإن تقلبات "بتكوين" الحادة تشير بوضوح إلى أن قيمتها تعتمد بشكل أساسي على تذبذب أهواء المشترين والبائعين أكثر من أي شيء آخر يمكن اعتباره من الأساسيات. وحين أقول "أي شيء آخر"، فأنا أعني ذلك حرفياً.

كما قال زميلي ليونيل لوران الشهر الماضي "اكتسبت الأصول الرقمية قبولاً، ولكن ليس لكونها أموالاً". يبدو أن العملات الرقمية أثبتت أنها ليست لا شيء، لكن هذا لا يعني أنه يمكن اعتبارها شيئاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي