هل الذهب يرتفع أم الدولار ينخفض؟                 

كثيرا ما نسمع في القنوات الإخبارية الاقتصادية عن تراجع أسعار الذهب، أو ارتفاعها، عن تراجع أسعار السلع أو ارتفاعها. يقال إن الذهب هو الملاذ الآمن، فعند الأزمات يتم بيع الأسهم والسندات والعودة إلى الذهب، فلماذا وهو قد يتراجع كما يقال؟ ما الثروة أساسا؟ الثروة تفسر بأنها الوفرة من الموارد الاقتصادية. نقول لدينا ثروة بشرية إذا كان لدينا وفرة من العمال الأصحاء المتعلمين ذوي المهارات العالية، ونقول لدينا ثروة من البترول إذا كان لدينا وفرة منه.

لكن ما الحد المائز بين الوفرة وما يقال عنها ثروة؟ هناك كثير مما يمكن قوله، لكن باختصار شديد نقول إن الحد المائز هو العملة. تصبح الوفرة من الموارد الاقتصادية ثروة عندما يمكن تحويل الفائض منها إلى عملة، وهذا يتم في الأسواق.

بدون أسواق لا يمكن إنتاج الثروة، في الأسواق نتبادل فائض الموارد الاقتصادية، فأنت في سوق العمل مثلا (في وظيفتك) تستبدل الفوائض من ساعات قوتك وجهدك ووقتك في خدمة الآخرين وتأخذ في مقابل ذلك أجرا (عملة)، وفي سوق الخضار يبيع المزارع فائض موارده الاقتصادية ويأخذ (عملة)، وبعبارة من عبارات ماركس نقول تصبح الوفرة ثروة إذا تم تجميدها في العملة.

لذلك نقيس ثرواتنا بما نملكه من عملة، لكن ذلك صحيح فقط إذا كان دور العملة هو تجميد كل الفائض من الموارد الاقتصادية في البلاد، لهذا يجب أن ينحصر دور الدولة في ضمان العملة من التلاعب والتزوير أو الحصول عليها بدون وجه حق، يعني أن الحصول عليها من خلال تبادل حقيقي لفائض عمل أو سلع، (العملة التي يتم تزويرها عملة خاوية).

في زمن قديم لم تكن الدول تبسط نفوذها في كل واد وسوق، لذلك كان الضمانة الأساسية لتجميد الفائض هو الذهب، ذلك المعدن البراق الذي لا يمكن إنتاجه دونما فائض ضخم جدا من العمل في مناجم تحت الأرض. لذا فإن مجرد وجوده يعني أن الذي أنتجه قد عمل بجهد كبير جدا، فهو مخزن طبيعي لفائض الموارد الاقتصادية (العمل)، وهو لا يبلى ولا يتغير ولا يفقد خواصه وله منافع أخرى لا حصر لها، لذلك فهو الأصل في الثروة ما بقي الزمان. عندما ظهر الورق أول مرة كان مجرد صك ضمان وجود الذهب.

فهو مجرد صك دين على من عنده الذهب، ولا يوجد خطأ ارتكبه البشر أكبر من تبادل فائض مواردهم "بدين"، فمع الزمن أصبح الناس يبيعون فائض إنتاجهم مقابل الحصول حق "تبادل الديون". الحكومات احتكرت الذهب في البنوك، ثم أعطت في مقابله ورقة تعترف بالدين (سميت عملة فيما بعد) على أصل الذهب الموجود عند الحكومة الذي يمثل كل الوفرة من الموارد الاقتصادية التي تمتلكها تلك الحكومة (لذلك فإن كمية الورق تعادل كمية الذهب عند الحكومة فقط)، فكل ورقة دين أصدرتها (عملة) يقابلها رقم محدد من الوفرة.

لكن كيف حددت الحكومة سعر تبادل الذهب مع العملة، الحقيقة أن هناك سعر توازن بين الذهب والفضة كان هو الذي يضمن للعالم أمنه الاقتصادي طوال قرون متطاولة، ولقد أثبتت السجلات التاريخية منذ عصور ما قبل التاريخ أن العلاقة بين الذهب والفضة تتأرجح بين 1:12 حتى 1:18، وذلك حسب وفرة كل منهما، وحسب الأحداث التاريخية، كان الذهب والفضة كما كفتي ميزان، يعدل كل واحد الآخر، فكلاهما ناتج عن جهد وعمل حقيقي في مناجم، فليست مجرد وعد ودين، لكن في مراحل تاريخية بسبب حروب الفرنسيين والإنجليز والألمان ومحاولة قهر كل واحد للآخر تم إيقاف العلاقة بين الذهب والفضة وتم بذلك إيقاف آلية توازن الاقتصاد العالمي، كان ذلك في نهاية القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، ثم بدأت الولايات المتحدة التلاعب بكمية الورق الذي يتم إصداره مقابل ما يتم الحصول عليه من ذهب العالم، عندما قرر الرئيس روزفلت تحويل أوقية الذهب إلى 35 دولارًا في أوائل عام 1934 (هكذا بقرار من عنده).

ثم بعد الحرب العالمية الثانية أجبر العالم على نظام بريتون وودز عام 1944 وتم فيه ربط جميع العملات (أوراق العالم) بالدولار الأمريكي وعلى أساس وعد إصدار الدولار الأمريكي بقيمة محددة من الذهب، لكن بعد مدة "قيل" إن نظام بريتون وودز فشل، فتم تعليقه من قبل الولايات المتحدة في عام 1971 والعمل بنظام لا يوجد فيه ضمان أن تتم طباعة الدولار مقابل أي فائض في الموارد الاقتصادية تملكه الحكومة (سواء ذهبا أو أي سلعة أخرى)، ومع ذلك سمي النظام بالغطاء القانوني.

ولا أحد حقيقة يعرف معنى هذه العبارة. اليوم عندما نقول انخفض سعر الذهب، فهل لهذه العبارة معنى اقتصادي حقيقي، وهل الذهب يرتفع؟ الحقيقة أنه لا يمكن قياس الذهب بالدولار، لكن يمكن قياس الدولار بالذهب، عندما نقول ارتفع سعر الذهب فلا معنى لذلك إلا أن حجم الثروات المخزنة بالدولار قد انخفض.            

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي