هل نهدر فرصة الذكاء الاصطناعي؟

لأكثر من 200 ألف عام، كانت التكنولوجيا محورية في هذه القصة. فمنذ أيام الأدوات الحجرية إلى الوقت الحاضر، عملنا على بناء الحلول للتحديات التي تواجهنا، ومن رواية القصص الشفهية واختراع الكتابة إلى المطبعة والإنترنت، نجحنا في تطوير طرق جديدة وأفضل لتبادل المعرفة. في غضون الأعوام الـ200 الأخيرة، اكتشفنا أيضا كيف نُـجري التجارب بشكل أفضل وبدرجة أكبر من الحرية، وكنا حريصين أيضا على نقل هذه المعرفة. لقد أعطتنا العملية العلمية حقائق راسخة، فسمح هذا لكل جيل بالبناء على ما حققته الأجيال التي سبقته من تقدم.

دعمت التكنولوجيا أيضا النمو المذهل في أغلب البلدان على مدار القرنين الأخيرين. ورغم أن التنمية الاقتصادية خلقت فجوات تفاوت هائلة بين البلدان وداخل كل بلد، فقد أصبح الناس اليوم في كل مكان تقريبا أوفر صحة وأكثر رخاء مما كانوا ليصبحوا عليه مقارنة بأحوالهم في القرن الـ18. والذكاء الاصطناعي قادر على تنشيط هذا الاتجاه عن طريق تكميل المهارات والمواهب والمعرفة البشرية، وتحسين عملية صنع القرار، والتجارب، وتطبيقات المعرفة المفيدة.

قد يتساءل بعض الناس ما إذا كنا في احتياج إلى الذكاء الاصطناعي لتحقيق هذا الغرض. ذلك أننا في نهاية المطاف نعيش بالفعل في عصر يتسم بوفرة المعلومات؛ فكل ما قد يريده المرء ــ وكثير مما لا يريده ــ متاح تقنيا من خلال الإنترنت. لكن المعلومات المفيدة نادرة. 

المعرفة العملية المناسبة، وليس المعلومات فحسب، هي التي تجعل عمال المصانع أكثر إنتاجية، وهي التي تمكن عمال الكهرباء من التعامل مع المعدات الجديدة وأداء مهام أشد تعقيدا، وتساعد الممرضات على الاضطلاع بدور أكثر حسما في اتخاذ القرارات في مجال الرعاية الصحية، وتسمح في عموم الأمر للعمال من مُـخـتَـلَف المهارات والخلفيات بشغل أدوار جديدة وأكثر إنتاجية.

مع ذلك، وبسبب إمكاناته العميقة، يمثل الذكاء الاصطناعي أيضا أحد أخطر التهديدات التي واجهتها البشرية على الإطلاق. فالخطر لا يكمن فقط (أو حتى في الأساس) في احتمال أن تحكمنا الآلات الفائقة الذكاء يوما ما، بل في احتمال أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في تقويض قدرتنا على التعلم، والتجريب، وتبادل المعرفة، واستخلاص المغزى من أنشطتنا، سوف يقلل الذكاء الاصطناعي إلى حد كبير من قدرتنا إذا ما عمل دون انقطاع على إزالة المهام والوظائف، وأفرط في ترسيخ مركزية المعلومات وتثبيط الاستقصاء البشري والتعلم التجريبي، وتسبب في تمكين قِـلة من الشركات من السيطرة على حياتنا، وعمل على خلق مجتمع من مستويين في ظل أوجه تفاوت شاسعة في المساواة وفوارق ضخمة في المكانة، بل إنه قد يدمر الديمقراطية والحضارة الإنسانية كما نعرفها.

يمكننا أيضا أن نضمن عمل الذكاء الاصطناعي على صنع مزيد من الوظائف الجيدة والقدرات المعززة لمصلحة الجميع ــ بصرف النظر عن مستوى تعليمهم ودخلهم.

ولكن أولا: يجب أن يدرك عامة الناس أن هذا المسار المرغوب اجتماعيا ممكن من الناحية التقنية. فلن يتحرك الذكاء الاصطناعي في اتجاه داعم للبشر إلا إذا عمل خبراء التكنولوجيا، والمهندسون، والمسؤولون التنفيذيون بالتعاون مع المؤسسات الديمقراطية، وإذا استمع المطورون في الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين إلى 5 مليارات إنسان يعيشون في أجزاء أخرى من العالم. نحن بحاجة ماسة إلى مزيد من المشورة المدروسة من جانب الخبراء والقيادات الملهمة من السياسيين، الذين يجب أن ينصب تركيزهم على تحفيز الذكاء الاصطناعي الداعم للبشر من خلال أطر السياسات والضوابط التنظيمية.

لكننا نحتاج أيضا إلى ما هو أكثر من التنظيم. لا يمك المرء إلا أن يأمل أن تتمكن شركات الذكاء الاصطناعي الأوروبية والباحثون الأوروبيون من إثبات وجود بدائل لنموذج وادي السيليكون. لتحقيق هذا التأثير الإيضاحي، يتعين على المجتمع الأوروبي أن يعمل على تشجيع اتجاه الذكاء الاصطناعي الأكثر نفعا على المستوى الاجتماعي، وسيكون لزاما على القادة الأوروبيين الاستثمار في البنية الأساسية الرقمية اللازمة، وتصميم الضوابط التنظيمية التي لا تثبط الاستثمار أو تعمل على إبعاد الباحثين الموهوبين في مجال الذكاء الاصطناعي، وإنشاء ذلك النوع من آليات التمويل التي تحتاج إليها الشركات البادئة الناجحة لكي يتسنى لها التوسع. في غياب صناعة قوية تخصها في مجال الذكاء الاصطناعي، لن يكون لأوروبا تأثير يذكر في اتجاه الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.

خاص بـ "الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي