الورطة المالية بعد الجائحة
مع بدء الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم في الخروج من أزمة غلاء المعيشة التي تغذت على التضخم في أعقاب جائحة كوفيد-19، يواجه صنّـاع السياسات المالية واقعا مؤلما، فهم لم يخرجوا بَـعـد من المأزق.
الواقع أن التفتت الجغرافي الاقتصادي، وتغير المناخ، والشيخوخة السكانية، كلها عوامل تؤثر في الآفاق الاقتصادية الآنية والبعيدة الأمد. تنطوي هذه الاتجاهات على ثمن باهظ، وتتفاوت القدرة على تحمل التكاليف بدرجة كبيرة في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا. مع تقدم التعافي الاقتصادي وضبط الأوضاع المالية العامة بسرعات مختلفة داخل كل منطقة، يتعين على صناع السياسات إيجاد التوازن الدقيق بين التصدي لهذه الاتجاهات ودعم النمو.
عندما اندلعت الجائحة، أطلقت الحكومات في هذه المناطق الثلاث العنان لحوافز مالية ضخمة لتثبيت استقرار اقتصاداتها. وكشفت الضغوط التي فرضها ذلك على الموارد المالية العامة عن تباينات في الصحة المالية. فقد شهدت اقتصادات رابطة دول جنوب شرق آسيا+3 ــ البلدان العشرة في رابطة دول جنوب شرق آسيا، إضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية ــ أشد تدهورا، حيث ارتفعت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 17 نقطة مئوية منذ 2019. أما في أمريكا اللاتينية، فقد ازدادت نسب الدين بمقادير متواضعة نسبيا بلغت ست نقاط مئوية، في حين أصبح الدين العام في أوروبا الآن أقرب إلى مستويات ما قبل الجائحة، بسبب التضخم والإلغاء التدريجي لتدابير الدعم الاقتصادي.
على الرغم من هذه الاختلافات، برز اتجاه مثير للقلق في المناطق الثلاث: إذ تتحمل البلدان عجزا ماليا مستمرا لاستعادة النمو وتغطية تكاليف خدمة الديون المرتفعة في كثير من الاقتصادات، بما في ذلك بعض الاقتصادات المثقلة بالديون في أوروبا والأسواق الناشئة الكبرى في رابطة دول جنوب شرق آسيا+3 وأمريكا اللاتينية، يبدو أن مستويات الديون من المنتظر أن ترتفع إلى مستويات أعلى في السنوات المقبلة ما لم تُـتَّـخَـذ تدابير حاسمة لتوطيد الأوضاع المالية.
إن تفتت التجارة العالمية، وما ينتج عنه من تحويل التجارة والتحولات في الإنتاج للتحايل على حواجز الحماية، يوفر فوائد قصيرة الأجل لبعض اقتصادات دول جنوب شرق آسيا+3 واقتصادات أمريكا اللاتينية. لكن هذه المكاسب هشة وخاضعة للأهواء السياسية من جانب آخرين. علاوة على ذلك، يتسبب اعتماد أمريكا اللاتينية على السلع الأساسية واحتياجها إلى مزيد من الاستثمار في البنية الأساسية والتعليم والتكنولوجيا في الحد من قدرة المنطقة على الاستفادة من هذه الاتجاهات.
أخيرا، أضافت التحولات الديموغرافية إلى الضغوط المالية في هذه المناطق. وتستشعر بعض اقتصادات رابطة دول جنوب شرق آسيا+3 بالفعل الضغوط التي تفرضها الشيخوخة السكانية على أنظمة الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية. بحلول 2050، من المتوقع أن ترتفع التكاليف المالية المترتبة على مجتمع يشيخ بنحو 2.7 إلى 9.3 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات رابطة دول جنوب شرق آسيا+3 التي تصنف بالفعل على أنها شائخة أو شديدة الشيخوخة. يتصارع الاتحاد الأوروبي أيضا مع رياح ديموغرافية معاكسة، حيث تعمل الشيخوخة السكانية على تقليص المعروض من العمالة وقاعدة إيرادات بعض الحكومات. وعلى الرغم من إصلاح نظام معاشات التقاعد، فإن استحقاقات الشيخوخة، إلى جانب الرعاية والخدمات الصحية الطويلة الأجل، قد تكلف نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2050، مع كون بعض الاقتصادات أكثر عُـرضة من غيرها.
رغم أن أمريكا اللاتينية شابة نسبيا، فإنها تشيخ بوتيرة متسارعة، وهذا يهدد استدامة أنظمة معاشات التقاعد التي تعمل بنظام الدفع الفوري، ويدفع تكاليف الرعاية الصحية إلى الارتفاع، ويكشف عن ثغرات في شبكات الأمان الاجتماعي. وتؤدي مستويات العمالة غير الرسمية المرتفعة في المنطقة إلى تفاقم الضغوط على أنظمة الضمان الاجتماعي. تشير التقديرات إلى أن الأثر المالي المترتب على الشيخوخة السكانية سيرتفع بحلول 2050 بنسبة 3-7 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، مع تأثيرات أشد وضوحا في المجتمعات الأكبر سنا.
في خضم هذه التحديات، يتعين على صناع السياسات أن يعملوا على إيجاد التوازن بين ضبط الأوضاع المالية العامة واحتياجات الإنفاق المتزايدة. لا شك أن الحد من العجز أمر بالغ الأهمية، لكن تعزيز النمو الاقتصادي والمرونة لا يقل أهمية. للسير على هذا الحبل المالي المشدود، يتعين على الحكومات في آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا أن تتبنى التدابير اللازمة لتعزيز الإيرادات، وإعادة هيكلة النفقات، وإعادة توجيه الموارد نحو مبادرات مواتية للنمو، وإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل الاستثمارات في البنية الأساسية، والتدابير المناخية، والإبداع التكنولوجي.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.