ترمب والتعريفات الجمركية ومصير الدولار

مع إصرار إدارة ترمب على فرض تعريفات جمركية "مجنونة" على بقية دول العالم، يُـبدي كثيرون من المعلقين القلق إزاء مشكلة "عَـقـلَـنة اللامعقول": إسناد مبررات منطقية مقنعة إلى سياسات تفتقر إلى مثل هذه المبررات. وهم يزعمون أن مثل هذه المحاولات الساذجة تصرف الانتباه عن عمليات الخداع والاحتيال التي تتكشف أمام أعيننا. ومن المؤكد أن تحركات عائلة ترمب في مجال العملات المشفرة ــ حيث تعمل عملاتها الميمية كدعوة مفتوحة للرشوة ــ تدعم هذا التفسير. ولكن هل هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه، أو هل ينطوي الأمر على خفايا أخرى؟
كان مشروع الولايات المتحدة لتعزيز التجارة الحرة العالمية مهجورا بالفعل بحلول وقت انتخابات 2016، عندما خاض كل من دونالد ترمب وهيلاري كلينتون الحملة الانتخابية على أساس معارضة الشراكة عبر المحيط الهادئ. ثم فرض ترمب تعريفات جمركية على السلع المستوردة من الصين ودول أخرى، وظل عدد كبير من هذه الرسوم باقيا أو جرى تمديد العمل بها في عهد الرئيس جو بايدن. يُـعَـد قانون خفض التضخم من أكثر سياسات بايدن تميزا، وكان في جوهره محاولة لتشجيع إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة في القطاعات الخضراء، التي إضافة إلى كونها محمية بتعريفات ترمب، ستحصل أيضا على إعانات دعم. من المفترض أيضا أن تعمل أحدث موجة من تعريفات ترمب الجمركية على دفع عجلة إعادة التصنيع، وإن كان ذلك التصنيع من النوعية الأكثر كثافة في استهلاك الكربون. وبالتالي، يبدو أن التجارة الحرة أصبحت خارج قائمة الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.
وهكذا، على مدى الأعوام الأربعين الأخيرة، استوردت الولايات المتحدة أي شيء تريده تقريبا عن طريق إصدار سندات دين رقمية تدفع فائدة 2% دون أن تُـسـتَـرَد أبدا، لأن أذون الخزانة هي ذاتها وسيلة الادخار التي يلجأ إليها المصدرون. هذا يعني، بين أمور أخرى، أن الولايات المتحدة لا تحكمها قيود فيما يتصل بالحساب الجاري. ما الذي قد يجعل الولايات المتحدة راغبة في إنهاء هذه الحالة التي تبدو سحرية؟ بسبب تحدي قيود الحساب الجاري.
نظرا لهذه الآثار طويلة الأجل، أصبحت الشخصيات البارزة في كلا الحزبين الأمريكيين تعد "الامتياز الباهظ" الذي يتمتع به الدولار "عبئا باهظا". يرغب كل من الحزبين في "إعادة التوازن" إلى الاقتصاد الأمريكي من خلال تشجيع الإنتاج المحلي، وهذا يستلزم فرض التعديل قسرا على المصدرين الأجانب للحد من طلبهم على الدولار.
في نهاية المطاف، كان محرك التصدير الألماني متعثرا حتى قبل الجائحة. ويشير تخفيف ألمانيا أخيرا من ضغطها على "مكابح الديون" (تحديد سقف دستوري للعجز البنيوي) واتجاهها إلى احتضان الاستثمار إلى أن إعادة التوازن نحو الاستهلاك المحلي جارية بالفعل. وسوف تضيف طفرة الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي المدفوعة بضغوط من ترمب مزيدا من الزخم إلى هذا الاتجاه، كما أن احتمال اتجاه منطقة اليورو بدرجة أكبر إلى الاستهلاك من شأنه أن يمنح المستثمرين العالميين بديلا عمليا للدولار.
أما عن الصين، فيبدو أنها أدركت أن إغراق بقية العالم بالصادرات الخضراء (المركبات الكهربائية، والألواح الشمسية، وما إلى ذلك) ليس بلا حدود. فقد اتجهت بالفعل إلى التنويع بعيدا عن السوق الأمريكية، فتسبب هذا في تعظيم الحاجة إلى مزيد من الاستهلاك المحلي. من ناحية أخرى، يبدو أن بقية دول آسيا التي تعتمد على التصدير حريصة على إنشاء متاجر لها في الولايات المتحدة للحفاظ على قدرتها على الوصول إلى الأسواق.
مثل هذا العالم الذي أُعيد إليه توازنه سيحتاج إلى عدد أقل من الدولارات. وسيكون إنهاء النظام الحالي شديد الإرباك دون أدنى شك، وقد يتبين أن احتمال إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة محض وهم. ولكن من المهم أن نتذكر أن كلا الحزبين يعدان هذا ضروريا. لقد بدأت عملية إعادة التوازن قبل وصول ترمب إلى المشهد، وهي مدفوعة بقوى قد تدوم طويلا بعد رحيله.

خاص بـ"الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.

www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي