التجارة الدولية والنمو الاقتصادي تحت الصدمة

أدت المتغيرات التقنية نتيجة للثورات الصناعية المتعاقبة بدءا من 1750 حتى وقتنا الحالي، إضافةإلى المتغيرات التنظيمية في العالم نتيجة لبروز المنظمات الدولية، وخصوصا منظمات برتن وودز البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، والأخيره تأخر إنشاؤها حتى 1995، إلى تأطير النظام الاقتصادي العالمي من خلال تسارع العولمة وانفتاح الأسواق وصنع اعتمادية متبادلة بين دول العالم، ما نتج عن هذه المتغيرات زيادة في الإنتاجية وتحسين الكفاءة وانخفاض تكلفة النقل تحسين مستوى المعيشة وتقليل المخاطر ودرجة عدم اليقين من خلال استقرار النظام المالي والاقتصادي العالمي وتسهيل التجارة العالمية وانفتاح الأسواق وتعزيز التعاون الدولي والاعتماد المتبادل، ما أسهم في تدفق السلع والاستثمارات دول العالم، حيث كانت التجارة الدولية لا تشكل سوى 58 مليار دولار في 1950 ما يعادل تقريبا 17.5% من الناتج المحلي العالمي، قفز هذا الرقم في 2023  ليبلغ 33 ترليون دولار الذي يعادل تقريبا 59% من الناتج المحلي العالمي لتصبح التجارة الدولية وحركة السلع والخدمات أساسا لتحقيق الرفاه الاقتصادي للدول.

وبالتالي شكلت التجارة الدولية أداة مهمة للدول لتحقيق الأمن الاقتصادي الذي يعد هو العمود الفقري للأمن الوطني والذي كان يتحقق سابقا، قبل فترة العولمة الاقتصادية، من خلال الإنتاج الداخلي واستخدام القوة العسكرية.  ونتيجة لهذه المتغيرات ارتفع متوسط الدخل الفردي العالمي لأكثرمن 4 أضعاف خلال السبعين عامًا الماضية. بينما خلال الفترة من 1750 وحتى 1950 لم يتضاعف متوسط الدخل الفردي العالمي إلا تقريبا 3 أضعاف.

مرت التجارة الدولية خلال هذه الفترة من نشوء النظام العالمي الجديد بثلاث مراحل. اتسمت المرحلة الأولى بالتجارة في السلع النهائية المصنعة بالإضافة للمواد الأولية، حيث سيطرت الدول المتقدمة اقتصاديا او ما كان يعرف بدول الشمال بتصدير السلع النهائية المصنعة، بينما الدول النامية والتي كانت تسمى بدول الجنوب التي كانت تصدر السلع الأولية. استمرّت هذه المرحلة من بداية العولمة في 1890 إلى 1970 تقريبا.

المرحلة الثانية حيث بدأت دول الجنوب في الإنتاج الصناعي ومزاحمة دول الشمال في تجارة المواد المصنعة. أما المرحلة الثالثة فقد تشكلت مع نشوء منظمة التجارة العالمية في(WTO) 1994، ومن أهم سمات هذه المرحلةهو البحث عن الكفاءة الاقتصادية لتخفيض تكلفة المنتج النهائي من خلال سلاسل الإنتاج والتي تعتمد على توزيع أجزاء المنتج في دول مختلفة حسب القدرة التنافسية والميزة النسبية لكل دولة لدرجة أن بعض المنتجات يتم المشاركة في إنتاجها من أكثر من 100 دولة. 

أدى هذا النمط لزيادة مساهمة السلع الوسيطة وشبه المصنعة في التجارة الدولية لتبلغ ما لايقل عن 70% ما يجعل العلاقات الاقتصادية أكثر تعقيدا وأهمية للاقتصاد العالمي. 

ولتقليل المخاطر على المستثمرين والمصدرين وزيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي لتحقيق المكاسب المرجوة وتحسين التنافسية، فقد عملت هذه الدول على معالجة هذه المخاطر من خلال اتفاقيات التجارة الحرة أو الدخول في تكتلات مناطق حرة أو تكاملية، ومن أهم هذه الدول دول شرق آسيا والتي استطاعت أن تحقق نموا غير مسبوق في اقتصاداتها.

بينما الدول التي تبنت سياسة إحلال الواردات لم تحقق النجاح المطلوب في التنمية الاقتصادية، وتعد دول الشرق الأوسط من أكثر الدول التي تبنت سياسة إحلال الواردات، وكما هو ملاحظ ما زالت اقتصاداتها تعاني ضعف النمو الاقتصادي وتفشي البطالة وارتفاع نسبة الفقر.

وقد أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي اندمجت في الاقتصاد العالمي من خلال فتح أسواقها وتوقيع اتفاقيات تجارة حرة استطاعت رفع الإنتاجية من 3-5% في السنة، وذلك خلال الفترة التي أعقبت توقيع اتفاقياتها، كما أسهمت الاتفاقيات في زيادة الاستثمار الأجنبي بما لايقل عن 30%، وقد أسهم تدفق الاستثمار الأجنبي في معظم هذه الدول لنقل التقنية والاندماج في سلاسل الإنتاج، كما أدت الاتفاقيات لتخفيض تكلفة النقل، ما رفع من تنافسية هذه الدول. 

عملت هذه المتغيرات على تغير مشهد التجارة الدولية ليصبح جزءا لا يتجزأ من اقتصاد أي دولة، وأي محاولة للتراجع عن الانفتاح الاقتصادي تعاني انخفاض معدلات النمو الاقتصادي بما فيها الولايات المتحدة، وبالتالي سيصعب على الرئيس الأمريكي ترمب الوفاء بوعوده في استخدام التعرفة الجمركية بديلا للضرائب كما وعد ناخبينه، وقد سبق للولايات المتحدة أن قادت العالم لصراعالتعريفات الجمركية  في 1930، بإصدار قانون سميث-هاملي لمعالجة أزمة الكساد العظيم الذي ضرب الاقتصاد العالمي بما فيه الاقتصاد الأمريكي في 1929.

وقد كان نتاج تلك السياسة حروبا تجارية أدت لتعميق الكساد الاقتصادي واستمراره لحدود 14عاما التي كانت أحد أسباب نشوء الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى أسباب أخرى، وانتهت هذه المرحلة بتوقيع اتفاقية برتن وودز في 1944 والتي دعت لها الولايات المتحدة الأمريكية وشارك فيها أكثر من 40 دولة ليتم الإعلان عن نظام اقتصادي جديد قائم على مبدأ الانفتاح والتنسيق بين دول العالم من خلال الاتفاقيات متعددة الأطراف تحت مظلة المنظمات الاقتصادية الدولية بقيادة الولايات المتحدة والتعاون مع أوروبا، كما أن الرئيس ترمب حاول استخدام التعرفة الجمركية ضد الصين في فترة رئاسته الأولى في 2018 التي كان نتاجها انخفاض نمو الاقتصاد الأمريكي في حدود 0.1% وارتفاع الأسعار على المستهلكين في كلا الدولتين.

ومن المتوقع أن تؤدي سياسات الحمائية الحالية بقيادة أمريكا لرفع التعريفات الجمركية لارتفاع التضخم وتوقف أو عكس اتجاه البنك المركزي الأمريكي في تخفيض أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، كما ستؤدي لارتفاع تكلفة المنتجات الأمريكية وانخفاض قدرتها التنافسية.

ومن البديهي أن تقابل دول العالم التي سترفع عليها الولايات المتحدة التعريفة الجمركية بنفس السياسة، ما يدخل العالم في حرب تجارية قد تقود لتضخم ركودي عميق، وهذه المتغيرات ستخفض أرباح الشركات الأمريكية سواء العاملة في أمريكا أو في الخارج، ما يؤثر في تقييمها في سوق الأسهم الأمريكي الذي يتمتع بشبه كفاءة(Semi efficient) فالأسواق المالية بالذات التي تتمتع بقدرتها في عكس المتغيرات المستقبلية في تقييم أسهم الشركات، وسوق الأوراق المالية الأمريكي من أكثر الأسواق المالية كفاءة في قراءة المتغيرات، ستصحح أسعار الأسهم انخفاضا، ما قد يقود لانهيار للأسواق المالية ليؤدي لكساد عالمي.

ولتفادي آثار السياسة الاقتصادية الأمريكية في تعطيل الاتفاقيات متعددة الأطراف وإضعاف المنظمات الدولية، ومن أهمها منظمة التجارة العالمية، فقد عمدت كثير من دول العالم في التركيز على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية أو الدخول في تكتلات تجارية، ومن الملاحظ تزايد في التكتلات الاقتصادية والاتفاقيات الثنائية في العشر سنوات الماضية والتي من أهمها CPTPP 2018 ، AfCFTA 2019، RCEP 2022. وتحتاج دول العالم خصوصا الاقتصادات الصاعدة، للانفتاح الاقتصادي العالمي لتحقيق مستهدفاتها التنموية وتفادي الآثار السلبية للسياسات الأمريكية التي قد تشكل صدمة للاقتصاد العالمي يصعب التعافي منها في الأجل القصير.            
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي