لماذا نشتري الدولار إذا أصبحت أمريكا جزيرة اقتصادية؟
حصة الدولار من الاحتياطات العالمية تراجعت إلى 58% العام الماضي مقارنة بأكثر من 70% قبل عقدين
ربما آن الأوان لترمب أن يُعيد النظر في فهمه للعالم، ولحين حدوث ذلك، قد يكون الدولار ضحية جانبية لسياساته
في ظل فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لأعلى رسوم جمركية تشهدها الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن، يحتدم الجدل حول العملة الأبرز في العالم. فهل لا يزال الدولار الأمريكي ملاذاً آمناً، أم أنه بات أشبه بواحدة من العملات الخمس الهشة في الأسواق الناشئة، التي تتأثر سريعاً بتغير معنويات السوق وتدفقات الأموال الساخنة؟
حتى الآن، لم يصدر حكم واضح. فقد شهد الدولار تراجعاً ملحوظاً الأسبوع الماضي عقب إعلان البيت الأبيض فرض رسوم عقابية على كبار الشركاء التجاريين للولايات المتحدة. غير أن تعمق تراجع أسواق الأسهم وازدياد الضغوط المالية دفع بالمستثمرين الذين يتجنبون المخاطرة إلى العودة مجدداً لشراء الدولار.
مع ذلك، لا يزال القلق يخيم على المشهد. فإذا كان ترمب يسعى فعلياً إلى بناء اقتصاد أمريكي مكتفٍ ذاتياً من خلال جدران جمركية مرتفعة، فهل سيظل هناك داعٍ للدول الأخرى كي تحتفظ بكميات ضخمة من الدولار؟
في الواقع، بدأ الدولار يفقد جزءاً من هيمنته على ساحة التجارة والتمويل العالمية. وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد تراجعت حصة الدولار من الاحتياطات العالمية إلى 58% خلال العام الماضي، مقارنة بأكثر من 70% قبل عقدين. وقد رافق هذا التراجع تنامي استخدام عملات غير تقليدية مثل الدولار الأسترالي واليوان الصيني.
انسحاب المستثمرين يهدد الدولار
تخيل عالماً لا تزال فيه التجارة الحرة قائمة، لكن من دون مشاركة الولايات المتحدة. فبفضل التقدم في أنظمة صناعة السوق الآلية وإدارة السيولة، أصبح بمقدور الشركاء التجاريين الجدد إتمام صفقاتهم باستخدام عملاتهم المحلية مباشرة، من دون الحاجة إلى المرور عبر الدولار كوسيط لتسوية المدفوعات.
في هذا السياق، تتزايد المخاوف من أن المستثمرين الأجانب من القطاع الخاص، وليس البنوك المركزية، هم من يشكلون حالياً القاعدة الأساسية لشراء الأصول الأمريكية. وبينما دعمت هذه الأموال الساخنة في السابق دورة صعود الدولار، إلا أنها تنطوي على مخاطر كبيرة نظراً لأن هذه التدفقات الرأسمالية سريعة التقلب.
اعتباراً من العام الماضي، بلغت قيمة الأسهم الأمريكية التي يمتلكها المستثمرون الأجانب نحو 18 تريليون دولار، أي ما يعادل 60% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، مقارنة بأقل من 40% قبل عقد فقط. وإذا قرر هؤلاء المستثمرون تقليص حيازاتهم بنسبة لا تتجاوز 5%، فإن حجم عمليات البيع الناتجة قد يؤدي إلى مضاعفة عجز الحساب الجاري، الذي يسعى ترمب جاهداً للحد منه.
في السابق، كانت العجوزات المزمنة في الحساب الجاري الأمريكي تتيح للشركاء التجاريين الأجانب كسب الدولارات وتكديسها. في الوقت نفسه، جذب النمو الاقتصادي القوي والعوائد المرتفعة لمؤشر "إس آند بي 500" مديري الأصول الدوليين لزيادة استثماراتهم في السوق الأمريكية. لكن اليوم، تغيرت الصورة تماماً، إذ يتجه ترمب إلى فصل الولايات المتحدة عن النظام الاقتصادي العالمي، فيما يتوقع المحللون انكماشاً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد خلال هذا العام.
ترمب يتجاهل قوة قطاع الخدمات
للأسف، يبدو أن ترمب ينظر إلى العالم من خلال عدسة قديمة الطراز. فقد انتقد بشدة الأجانب الذين يسعون لتحقيق الثراء عبر بيع سلع زهيدة الثمن إلى المستهلكين الأمريكيين، متجاهلاً أن الولايات المتحدة تُعد مُصدراً صافياً للخدمات. فمن المنتجات المالية إلى خدمات الحوسبة السحابية، لا يزال الطلب على المنتجات الأمريكية الصُنع مرتفعاً بين الأجانب.
علاوة على ذلك، ومنذ الأزمة المالية العالمية، كان هؤلاء المستثمرون مشترين شرهين للأسهم الأمريكية، مما يشير ضمناً إلى إيمانهم المستمر بما يُعرف بمفهوم الاستثنائية الأمريكية. لكن الرئيس الأمريكي لا يركز سوى على جزء من الصورة. ربما آن الأوان لترمب أن يُعيد النظر في فهمه للعالم. وإلى أن يفعل ذلك، قد يكون الدولار، للأسف، ضحية جانبية لسياساته.
خاص بـ"بلومبرغ"