ماضي الإسترليني ومستقبل الدولار
في أبريل من 1925، قبل 100 عام هذا الشهر، اتخذ ونستون تشرشل، بصفته وزيرا للخزانة، القرار المصيري بإعادة الجنيه الإسترليني إلى معيار الذهب بسعر الصرف المعمول به قبل الحرب العالمية الثانية. كان تشرشل آنذاك، مثله كمثل وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت الآن، حائرا بين هدفين. فمن ناحية، كان يريد الحِـفاظ على وضع الجنيه الإسترليني بصفته العملة الرئيسية التي يدور حولها النظام النقدي الدولي، وصيانة مكانة لندن باعتبارها المركز المالي الدولي الرائد. ومن ناحية أخرى، كان تشرشل، أو على الأقل الأصوات المؤثرة من حوله، يرى ميزة في سعر صرف أكثر تنافسية ــ بمعنى "خفض قيمة الجنيه الإسترليني" ــ الذي قد يعزز التصنيع والصادرات البريطانية.
لا أحد يستطيع أن يُـجزِم لماذا اختار تشرشل المسار الأول. كان ثِـقَـل التاريخ ــ التفوق الاقتصادي البريطاني في ظل معيار الذهب قبل الحرب العالمية الأولى ــ يشير إلى استعادة الوضع النقدي السابق. وكانت مدينة لندن، أي القطاع المالي هناك، تمارس الضغوط لفرض العودة إلى سعر صرف ما قبل الحرب مقابل الذهب والدولار.
جاءت التأثيرات متفقة إلى حد كبير مع التوقعات. فقد استعاد الجنيه الإسترليني وضعه كعملة دولية رئيسية، واستعادت المدينة مكانتها كمركز مالي. ولكن عند تلك اللحظة بات لزاما على الإسترليني ومدينة لندن مُغالَبة نيويورك والدولار الذي اكتسب أهمية بسبب الارتباكات التي شهدتها أوروبا نتيجة للحرب وإنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي لدعم الأسواق المالية الأمريكية.
وهنا، من الواضح أن قوة الجنيه الإسترليني وأسعار الفائدة المرتفعة المطلوبة للدفاع عن سعر صرفه لم تكن مفيدة. ولكن من قبيل التسرع إلى الاستنتاج أن نعزو أداء الاقتصاد البريطاني الضعيف بالكامل إلى سعر الصرف.
فمن ناحية، أصبحت صناعات التصدير التي اعتمدت عليها بريطانيا تقليديا ــ المنسوجات، والصلب، وبناء السفن ــ خاضعة لمنافسة شديدة من جانب الدول التي انتهجت التصنيع بعد بريطانيا التي كانت تمتلك منشآت أكثر حداثة، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان. لم يكن الوضع مختلفا عن المنافسة التي يستشعرها قطاع التصنيع الأمريكي حاليا من جانب الصين وغيرها من الأسواق الناشئة. في ذلك الوقت كما هي الحال الآن، لم يكن من الواضح أن سعر الصرف الأضعف قد يُـحدث فارقا كبيرا، نظرا لظهور هذه القوى الصاعدة. كما أن التعريفات الجمركية التي فرضتها المملكة المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين لم تنجح في إنعاش صناعاتها القديمة.
علاوة على ذلك، واجهت بريطانيا صعوبة في تطوير الصناعات الجديدة التي شكلت الحدود التكنولوجية آنذاك ــ الهندسة الكهربائية، والمركبات ذات المحرك، والسلع الاستهلاكية المنزلية المعمرة ــ حتى بعد خفض قيمة الجنيه الإسترليني في 1931. وكانت الولايات المتحدة وبلدان أخرى أسرع في تبني التكنولوجيات وأساليب الإنتاج الجديدة، مثل خط التجميع. وتسبب التشدد النقابي في تثبيط الاستثمار.
على الرغم من هذه المشكلات، صمد وضع الجنيه الإسترليني كعملة دولية خلال الثلاثينيات. الواقع أن الجنيه الإسترليني استعاد بعضا من مكانته كعملة احتياطية وعملة مدفوعات التي خسرها لمصلحة الدولار في العقود السابقة. في حين نجحت بريطانيا على نطاق واسع في صيانة الاستقرار المصرفي والمالي، عانت الولايات المتحدة 3 أزمات مصرفية ومالية منهكة.
الدروس التي يجب أن يستوعبها أولئك الذين يسعون إلى الحفاظ على مكانة الدولار كعملة عالمية واضحة. تجنّب زعزعة الاستقرار المالي، وهذا يعني في السياق الحالي عدم السماح للمشكلات في مجال العملات الرقمية بالامتداد إلى بقية النظام المصرفي والمالي. الحد من اللجوء إلى التعريفات الجمركية، لأن استخدام الدولار واسع الانتشار على المستوى الدولي مستمد في جزء كبير منه من علاقات أمريكا التجارية مع بقية العالم.
الواقع أن الولايات المتحدة، كما تشير كل المظاهر، تسير في الطريق المعاكس، حيث تخاطر بالاستقرار المالي، وتفرض الرسوم الجمركية طوعا أو كرها، وتستعدي شركاءها في التحالف. وكل ما تحقق على مدى فترة طويلة بات من الممكن هدمه في غمضة عين ــ أو بجرة قلم رئيس. كان تشرشل مدركا للمخاطر. وعلى حد تعبيره: "قد يكون البناء مهمة بطيئة وشاقة تمتد لسنوات. أما التدمير فربما يكون فعلا طائشا لا يستغرق أكثر من يوم واحد".
خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.