تراجع النمو في سنغافورة
أظهرت بيانات النمو استمرار تحقيق الاقتصاد في سنغافورة معدل نمو سالب بلغ في الربع الثالث من 2016 نسبة 4.1 في المائة وهو أقل معدلات النمو التي تحققت منذ أربع سنوات، الأمر الذي انعكس بصورة واضحة على العملة المحلية (الدولار السنغافوري)، التي انخفضت هي الأخرى إلى أقل مستوى لها منذ 7 سنوات.
ترجع مصادر هذا التراجع إلى انخفاض النمو في القطاع الصناعي بمعدل 17.4 في المائة في الربع الثالث مقارنة بالربع الثاني، بصفة خاصة في قطاعات هندسة النقل والطب الحيوي والتصنيع. تجدر الإشارة إلى أن القطاع الصناعي في سنغافورة يشكل نحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. من جانب آخر فإن قطاع الخدمات الذي يشكل نحو ثلاثة أرباع الاقتصاد السنغافوري قد تراجع هو الآخر بنسبة 1.9 في المائة بصفة خاصة المال والتأمين والتجارة بالجملة.
على عكس التوقعات فإن الحكومة تؤكد أن الاقتصاد السنغافوري سوف يتجاوز الكساد هذا العام ويتحول النمو في النطاق الموجب في 2017، بما يخفف من الضغوط على البنك المركزي لتسهيل سياساته. وقد أفادت الحكومة بأنها ستركز على السياسة المالية لمساعدة الاقتصاد الوطني على الخروج من الأزمة، حيث على ما يبدو أن الحكومة سوف توجه مزيدا من الموارد المالية نحو برنامج للتحفيز المالي للاقتصاد ورفع الطلب المحلي دون اللجوء إلى رفع قيمة الدولار السنغافوري، وهو الأداة التي يستخدمها البنك المركزي السنغافوري في تسيير سياساته النقدية.
التوقعات تدور حاليا إذن حول استعادة عزم النمو في 2017، غير أنه بالنسبة لاقتصاد مفتوح مثل الاقتصاد السنغافوري فإن استعادة النمو تقتضي توافر ظروف خارجية موائمة، بصفة خاصة تقتضي أن تكون التجارة الدولية في أفضل حالاتها، واليوم الوضع الاقتصادي في العالم لا يشير إلى إمكانية حدوث ذلك، لذلك فإن هناك تحفظات قوية حول هذه التوقعات. حيث سيظل ضعف النمو العالمي قيدا على هذا التوقع.
ما يعيب الواقع الاقتصادي في سنغافورة، وفي الاقتصادات المفتوحة بشكل كبير على الخارج، أنه شديد التقلب نظرا لارتباط النمو فيه بالتطورات التي تحدث في التجارة العالمية، وبالتالي فإن المخاطر العالمية هي أكثر ما يوجه اتجاهات النمو، التشابك القوي بين سنغافورة والاقتصاد العلمي يرجع إلى طبيعة الاقتصاد باعتبار أن الجزيرة تشكل أحد المراكز المالية الرئيسة في العالم، كما أنها مركز تجاري رئيس. هذه الصفة للاقتصاد تجعله عرضة لأي تطورات معاكسة على النطاق العالمي. اليوم الظروف الاقتصادية العالمية غير موائمة، لذلك يتراجع النمو في سنغافورة. ومن ثم فإن ما يوجه اتجاهات النمو اليوم هو التطورات العالمية، لسوء الحظ التطورات العالمية اليوم تفرض التحول عن استخدام السياسة النقدية لمصلحة السياسة المالية.
كان من المفترض في مواجهة هذه التطورات أن يعلن البنك المركزي عن تطبيق سياسة لتسهيل عرض النقود لمساعدة الطلب المحلي وتشجيع النمو، غير أن البنك المركزي أعلن عن استمراره في استخدام سياسة نقدية محايدة، ما دعا بعض المراقبين إلى توقع أن يستمر النمو ضعيفا في 2017 أيضا.
ما يميز السياسة النقدية في سنغافورة أنها تعتمد على استخدام معدل الصرف كدليل بدلا من معدلات الفائدة، وهو المؤشر المتبع في معظم دول العالم. أي أن السياسة النقدية في سنغافورة لا تقوم على استخدام كمية النقود ومن ثم سعر الفائدة، وإنما على قيمة العملة، بمعنى رفع قيمة العملة أو خفض قيمة العملة. السياسة التي يستخدمها البنك المركزي هي أنه عندما يتراجع النمو يقوم برفع قيمة العملة السنغافورية، عندما ترتفع قيمة العملة فإن القوة الشرائية للناس ترتفع ما يدفعهم نحو الاستهلاك بصورة أكبر فيرتفع الطلب الكلي ويرتفع النمو، والعكس. هذه المرة أعلن البنك المركزي أنه لن يرفع قيمة العملة التي ستظل تتحدد قيمتها من دون تدخل من البنك المركزي. بالطبع في ظل هذه الظروف لا بد أن تتراجع قيمة العملة وهو ما حدث بالفعل.
يقوم معدل صرف الدولار السنغافوري على سلة عملات تحددها السلطات النقدية، وهي غير معلومة أو مكشوف عنها، وبناء على قرار السلطات النقدية يتم تحديد معدل صرف الدولار السنغافوري بالرفع أو الخفض من خلال تحديد السعر المركزي للدولار داخل السلة رفعا أو خفضا. ما أعلنته السلطات النقدية حاليا هو أنها سوف تستمر في تبني سياسة عدم رفع قيمة العملة، وبالتالي فليس هناك احتمالات أن يتحسن النمو في الوقت الحالي أو الأجل القريب. في مقابل هذه الأخبار أخذ الدولار السنغافوري في التراجع أمام الدولار الأمريكي. الهدف الأساسي من تثبيت معدل الرفع في قيمة العملة هو الحفاظ على استقرار الأسعار في الأجل المتوسط، مع العلم بأن التضخم المستهدف أي معدل التضخم الأساسي الذي يشمل تكلفة السكن وتكلفة الانتقال عبر الطرق الخاصة عند 2 في المائة.
يعاني الاقتصاد السنغافوري من التضخم السالب، وهي مشكلة للأمانة لا تخص سنغافورة فقط، وإنما تنتشر في عديد من الدول في العالم، خصوصا في أوروبا. مشكلة التضخم السالب أن له تأثيرات سلبية في النمو. فالتضخم السالب يعكس ضعف الطلب المحلي، الذي يدفع بالأسعار نحو التراجع. استمرار التضخم السالب يجلب معه ظاهرة الانكماش السعري، وهي مشكلة ذات أبعاد خطيرة، ويصعب التخلص منها أو التخفيف من آثارها. بصفة خاصة عندما تنشأ في الاقتصاد ظاهرة الانكماش الحلزوني، حيث يتوقع الأفراد انخفاض الأسعار، وهو ما يدفعهم نحو الادخار بدلا من الإنفاق، فتنخفض أرباح الشركات، وتأخذ الأجور والدخول في التراجع نسبيا، ومن ثم يتراجع النمو وهكذا دواليك.
لتوضيح الأمور بصورة أكثر دعنا ننظر إلى الحالة اليابانية، حيث عانى الاقتصاد الياباني الانكماش السعري لمدة 15 عاما، على الرغم من المحاولات المضنية للبنك المركزي بخفض معدلات الفائدة أو باستخدام التيسير الكمي، ظل الانكماش السعري مشكلة أساسية يعانيها الاقتصاد الياباني حتى اليوم.
الخلاصة أن الاقتصاد السنغافوري يعاني اليوم تراجعا شديدا في معدل النمو، وأن السلطات النقدية لن تغير من مسار العملة لتشجيع النمو الذي تتوقع الحكومة أن يرتفع العام المقبل، غير أن الظروف الاقتصادية العالمية ربما لا تساند هذا التوقع.