أيقونات السجع وتعطيل العقل

كثيرة هي المواقف الصعبة التي تمر علينا أفرادا وجماعات وأمما، وتتباين ردود الفعل بشأنها، حتى إن تشابهت المواقف والأزمات في شدتها وقسوتها وآثارها في النفس. لو تأمل الفرد في المحطات التي مر بها في مشوار الحياة لاكتشف ما إذا كان هناك نسق ثابت في التعامل مع الظروف والأزمات، أم أن التعامل يختلف باختلاف الموقف والظرف، ولا وجود للنمطية في مواجهة المواقف، بل ما يحدد شكل التعامل طبيعة الموضوع وظرفه الزمني، والأطراف الداخلة في تشكيله.
من الثابت في مسيرة الإنسان على كوكب الأرض ابتلاؤه في نفسه أو عائلته أو ماله (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون). الآية الكريمة تبرز جوهر التعامل مع الأزمات، والمصائب في تأكيدها على الصبر كآلية نفسية لا أقول نمنع وقوع المصائب، والأزمات، لكن نتمكن من التخلص من آثارها التي قد تعوقنا عن العمل وتنكد علينا حياتنا في الأوجه، والمناشط الأخرى.
البعض يرى أن الأفضل تجنب الأزمات من الأساس وتفادي وقوعها، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة؛ إذ إن الفرد أو الأمة لا تملك زمام الحياة لتتصرف في نواميسها، وقوانينها ذات الطبيعة المادية، أو الاجتماعية، والإنسانية، لذا قد يستحيل عليه تفادي وقوع الأزمة في بعض الظروف، ولو أخذنا على سبيل المثال النوازل التي وقعت في عصرنا الحاضر في أمتنا، أو في أجزاء منها، كما يحدث في العراق، وسورية، من قتل، وتدمير، وحاولنا أن نسقط عليها نواميس وقوانين الحياة لنكتشف أسباب حدوثها للزم الأمر استرجاع أهم مكونين لدى الإنسان، اللذين يؤثران عليه في تعامله مع ما يحيط به من عناصر مادية وبشرية.
العقل والعاطفة ركيزتان أساسيتان في توجيه السلوك، واتخاذ القرار إزاء أي موضوع، خاصة إذا كان الموضوع ضاغطا، فالبعض يجد نفسه متفاعلا مع الموقف بصورة عاطفية صرفة، لا حضور للعقل، ولا تأثير له في توجيه وضبط السلوك، أي بمعنى آخر تكون المشاعر والانفعالات سيدة الموقف، ويخرج الفرد عن الوضع الطبيعي، حتى يسهل على من يشاهد الموقف اكتشاف الخلل، أو ربما المزمن الذي يمر به الفرد. عدم القدرة على التحكم في المشاعر له أسبابه الثقافية التي لها دورها في تشكيل شخصية الفرد، وبناء منظومة القيم، وعليه يمكن القول إن ثقافات المجتمعات تختلف في بنائها، ونسيجها عن بعض، فمن الثقافات ما يغرس في الأفراد استخدام الصراخ ورفع الصوت سواء لأمر مشروع أو غير ذلك، بينما ثقافات أخرى تعتمد أسلوب الهدوء والسكينة في التعامل، وعند إبداء ردود الفعل إزاء ما قد يكون مثيرا للانفعالات، ولذا جاء التوجيه النبوي الشريف (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) حاثا على ضرورة التحكم في المشاعر وعدم جعلها أساسا لتصرفات الفرد وأفعاله.
المكون الأساس الثاني العقل وما يترتب على توظيفه التوظيف الأمثل في المواقف كافة والظروف، وجعل السيادة والتحكم في الموقف له، فتوظيف العقل يمكن من اكتشاف الإيجابيات والمآلات التي تنتج من هذا الفعل أو ذاك، وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد بمواقف تمثلت في تصرفات فجة أملتها العاطفة الجياشة غير المنضبطة، فالجميع يتذكر كيف كان القذافي يستهزئ بالمعارضين ويصفهم بأبشع الأوصاف بالجراثيم والكلاب الضالة، وكيف كان وضعه عندما تم القبض عليه، وهو يستعطف من قبضوا عليه بكل ذلة حين خاطبهم بأنه كالوالد لهم، فغياب الحكمة وسيادة المشاعر في ظرف تفقد الفرد الصواب ويتصرف بصورة لا تحمد عقباها.
استرجعت صورة أخرى من عدم توظيف العقل بالشكل السليم والانقياد وراء العاطفة حين غزا صدام حسين الكويت، هل سأل نفسه ما الآثار الممكن حدوثها له شخصيا وللعراق الذي يمر الآن بأسوأ المراحل والظروف، والجميع يعلم ما المصير الذي انتهى إليه لأن المشاعر طغت على العقل وحجبته عن التعامل الفعال مع الظروف، والمعطيات الدولية والمصالح التي تبرر إهلاك الملايين بهدف الحفاظ على المكاسب.
مما يلاحظ في ثقافتنا العربية ميلنا الواضح لتوظيف آليات إشعال العاطفة وإلهاب المشاعر، بصورة يترتب عليها تحجيم دور العقل إن لم يكن تعطيله، وتتمثل الآليات في الخطب الحماسية الرنانة وأيقونات السجع حتى إن التوقيت له دوره في تحقيق بعض النتائج، سواء في بداية النازلة لتحريك المشاعر والعواطف لإحداث شيء من التفاعل مع الموقف، أو لإطفاء المشاعر وكبحها وامتصاصها منعا لحدوث تصرفات غير حميدة، وهذا في حالة الاحتقان، فالخطب، وأيقونات السجع لها دورها المؤقت الذي يريح النفوس ويزيل عن الكواهل الشعور بالتقصير بعد حفلة الامتصاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي