الغرب يسعى لعودة الحرب الباردة!
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أظهرت روسيا رغبة واضحة في إنهاء حالة العداء مع الغرب، بعد تلاشي الخلاف الأيديولوجي الذي كان قائماً بين المجموعتين بسقوط الشيوعية، ولعدم قدرة روسيا على إبقاء حالة المواجهة مع الغرب باعتبار أنها خرجت من ذلك الصراع مستنزفة وفي وضع اقتصادي مزر لا يتناسب مع أي محاولة من جانبها للبقاء كقوة عالمية عظمى. لذا فقد تراجع النفوذ الروسي في العالم وتفردت الولايات المتحدة بصنع القرار العالمي، ولم تعد تأخذ في الحسبان حتى امتلاك روسيا حق النقض في مجلس الأمن، فهي لا تستطيع إغضاب الولايات المتحدة ومضطرة دوماً لمجاراتها. إلا أن الغرب لم يتعامل مع هذا الواقع بعقلية "ارحموا عزيز قوم ذل" وبدلاً من ذلك بالغوا في إذلال روسيا والاستخفاف بردة فعلها وقدرتها على الدفاع عن مصالحها، من خلال تبني خطة تستهدف محاصرتها وتجريدها من جميع حلفائها ومناطق نفوذها. فحلف الناتو الذي لم يعد هناك أي سبب حتى لبقائه، في ظل تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، تبنى سياسة توسعية تستهدف ضم كل الدول التي كانت ضمن النفوذ السوفياتي في أوروبا، بل إن الحلف سعى لضم حتى الجمهوريات السوفياتية السابقة، فضم جمهوريات البلطيق الثلاث وخطط لضم أوكرانيا وجورجيا، دون أدنى اعتبار لكون روسيا تعد تلك الجمهوريات السوفياتية السابقة جزءا لا يتجزأ من مجالها الحيوي، وأن الحلف بضمها إليه يتجاوز خطوطاً حمراء ويشكل تهديداً خطيراً لروسيا وأمنها الوطني.
الاختبار الأقوى لمدى استعداد روسيا للقبول بالانحناء في وجه الضغط الغربي جاء من خلال جمهورية جورجيا الضعيفة الصغيرة التي مزقتها الحرب الأهلية منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي قبل نحو 20 عاما، فاندفعت بحماقة في محاولة للسيطرة على إقليم أوسيتيا الجنوبية المستقل عملياً عن جورجيا والموكل حفظ الأمن فيه إلى القوات الروسية منذ الاستقلال. فمن خلال تجرؤ جورجيا على القيام بهجوم لا يراعي أو يقيم وزناً للوجود العسكري الروسي في الإقليم تأكد الروس أن ليس هناك حدود للاستخفاف الغربي بروسيا، ولا لما يمكن أن تتعرض له من استفزاز. ووجدت روسيا أنها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخضوع والاستسلام للاستفزاز الغربي وبالتالي تطويقها تماماً من قبل حلف الناتو، وإما أن تضطر للدفاع عن مصالحها الحيوية بصورة يسهُل معها وصفها بالعدائية والعنجهية، والقول إن الدب الروسي كان نائماً فقط ولا يزال يمثل تهديداً لدول الجوار والأمن العالمي، وبالتالي فوجود حلف الناتو واستمراره مبرر وضروري. وهذا ما حدث فعلا، حيث تعالت الأصوات المنددة بالاحتلال الروسي لأراضي جورجيا، وسارعت الولايات المتحدة لاغتنام الفرصة فوقعت على اتفاقية لنشر صواريخ على الحدود الروسية في بولندا، وبلغ استخفافها بروسيا حد طمأنتها بأنها وإن نصبت تلك الصواريخ على حدودها، فإنها ليست على الإطلاق مستهدفة، والمستهدف هو كوريا الشمالية وإيران.
لقد حاول الغرب من خلال مفكري اليمين المتصهين أمثال صامويل هننجتون وبرنارد لوس أن يجبر العالم الإسلامي على أن يصبح العدو البديل للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي. فالمعسكر الغربي يقوم تماسكه ووحدته على وجود تهديد خارجي وعدو مشترك، وطالما أن الاتحاد السوفياتي سقط ولم يعد يمثل تهديداً للغرب، وبما أن الصين منشغلة بتطوير اقتصادها ورفع معيشة سكانها، فإن التهديد القادم لا بد أن يكون الإسلام والعالم الإسلامي. إلا أن هذا الترشيح للمسلمين من قبل اليمين المتطرف ثبت أنه في غير محله، أولاً: لعدم وجود أدنى حد من التكافؤ بين الغرب والمسلمين، وبالتالي غياب أي قدرة أو رغبة لدى المسلمين للقيام بهذا الدور الذي رشحوا للقيام به قسرا، وثانياً: أنه لا توجد حالة عداء حقيقي للغرب في العالم الإسلامي، وإنما فقط موقف شعبي رافض لسياسات غربية مستفزة للعالم العربي والإسلامي، وهذه المشاعر يمكن أن تتغير جذرياً بمجرد حدوث تحول في تلك السياسات.
ورغم أن حالة التدافع هي الوضع الطبيعي للحياة على كوكب الأرض كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)، وقوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ)، إلا أن توقعنا أن عودة الحرب الباردة من جديد سيكون في صالح الدول الضعيفة في العالم ومن بينها دول العالم الإسلامي قد يكون تفاؤلا في غير محله، فقد فشلنا في تسخير مرحلة عداء أشد لصالحنا بانقسامنا بين ولاء مطلق لهذا المعسكر أو ذاك، دون أن نتوقع أو نطالب بأي ثمن لذلك، وسنعيد الكرة نفسها في حال عودة الحرب الباردة من جديد.