لم أصبح التضخم مشكلة؟!

[email protected]

وصل معدل التضخم في المملكة في تموز (يوليو) الماضي إلى 11.1 في المائة بعد أن كان معدله لا يتجاوز 0.7 في المائة عام 2005. ورغم هذا الارتفاع الكبير في معدلات التضخم حاليا إلا أنها ما زالت تقل كثيراً عن معدلات التضخم التي سجلت خلال سبعينيات القرن الماضي، أي خلال الطفرة الأولى، حيث وصل معدل التضخم عام 1974، على سبيل المثال، إلى 34 في المائة، ومع ذلك نجد أن معاناة أفراد المجتمع من التضخم حاليا أكبر بكثير من معاناتهم في السبعينيات رغم الارتفاع الهائل في معدلات التضخم في ذلك الوقت مقارنة بمعدلات التضخم الحالية. هذا الواقع يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسة:
1- أحد أهم الفروق بين الطفرة الحالية في الاقتصاد السعودي وطفرة السبعينيات هي محدودية وتدني أجور فرص العمل للداخلين الجدد لسوق العمل خلال هذه الطفرة مقارنة بطفرة السبعينيات. ففي السبعينيات ونظراً لصغر حجم القطاع الحكومي آنذاك وحاجته إلى التوسع السريع فقد كان هناك نمو كبير في فرص العمل المتاحة في هذا القطاع وبأجور مجزية، ما جعل كل باحث أو باحثة عن عمل يجد فرصة مناسبة بأجر مجز, الأمر الذي ترتب عليه نمو الدخل العائلي بمعدلات تفوق كثيراً معدلات التضخم رغم ارتفاعها الحاد، بحيث إن الصفة اللازمة للطفرة الأولى هي تحسن مستويات الدخل والمعيشة لمعظم أفراد المجتمع، في حين أن من أبرز خصائص الطفرة الحالية تراجع مستويات المعيشة لقطاع واسع من أفراد المجتمع وارتفاع معدلات البطالة وتدني مستويات الأجور. فتضخم القطاع الحكومي وعجزه عن توفير عدد كاف من فرص العمل للداخلين الجدد لسوق العمل ترتب عليه ارتفاع كبير في معدلات البطالة وتدن في أجور ما يتم إيجاده من فرص عمل في القطاع الخاص، في ظل المنافسة الشديدة وغير العادلة من قبل عمالة أجنبية تقبل بأجور زهيدة تجعلها مفضلة من قبل قطاع خاص همه الأول والأخير تعظيم أرباحه دون أدنى اعتبار لأمننا الاجتماعي والاقتصادي، ما تسبب في ارتفاع معدلات الإعالة في المجتمع وزاد من حدة تأثر أفراد المجتمع بارتفاع معدلات التضخم.
2 - لعب النمو الهائل في القروض الشخصية دورا رئيسا في زيادة حدة معاناة أفراد المجتمع من التضخم، حيث تسبب ضمان تحويل الرواتب إلى البنوك في تشجيع البنوك على التوسع في القروض الشخصية في ظل الارتفاع الكبير في معدلات فائدتها مقارنة بأنشطة تمويلية أخرى، كما أن الارتفاع الحاد في سوق الأسهم خلال الفترة من عامي 2002 و2005 جعل معظم أفراد المجتمع ممن لا يملكون مدخرات مالية أو يرغبون في تعظيم مكاسبهم في هذه السوق يجدون أن أسهل وسيلة متاحة لهم لتحقيق ذلك هو الاقتراض. وبانهيار السوق وتبخر الاستثمارات، فإن ما تبقي من دخل معظم المقترضين بعد حسم القسط الشهري للبنك أقل من أن يكفي لتلبية احتياجاتهم الضرورية. وفي ظل هذا الوضع فإن تأثر أفراد المجتمع بارتفاع أسعار السلع والخدمات يكون أشد، باعتبار أن الدخل المتاح، أي الدخل بعد حسم قسط البنك، محدود يذهب معظمه لتلبية احتياجات أساسية، ما يزيد من حدة تأثر مستويات معيشة أفراد المجتمع بارتفاع أسعارها بصورة تفوق كثيراً ما سيكون عليه الحال لو لم تتراجع مستويات الدخول المتاحة بسبب الاقتراض.
3 - هناك غياب واضح للرشد المالي بين أفراد المجتمع إلى حد أن بعضهم ينظر إلى المبلغ الذي يحصل عليه من خلال الاقتراض كما لو أنه مبلغ مجاني لا تبعات له، ولا يفكر على الإطلاق فيما سيترتب على حصوله على قرض من انخفاض في دخله المتاح لسنوات عديدة مقبلة. فمن يرغب في قضاء إجازة في أوروبا مثلا ولا يملك الموارد المالية اللازمة يحل مشكلته بالحصول على قرض، ومن يرغب في تلبية احتياج غير ضروري يستسهل الاقتراض ويقدم عليه دون تردد. اتخاذ هذه القرارات المهمة والمؤثرة بشكل هائل في مستويات المعيشة سنوات عديدة وفق اعتبارات لا تتعدى المتعة الوقتية دليل واضح على غياب الرشد المالي بين قطاع واسع من أفراد المجتمع. والحقيقة أن الطفرة الأولى تسببت في تحولات سلوكية سلبية بقي معظم أفراد المجتمع متمسكين بها رغم تغير ظروفهم المالية وحاجتهم إلى التخلص منها للمحافظة على مستويات معيشتهم، فمن يهدر، على سبيل المثال، 500 ريال على فاتورة جوال رغم تدني دخله ولا يدرك أن تكلفة ذلك تشمل أيضا ما يترتب على ذلك من حد في قدرته على تلبية احتياجات أكثر أهمية هو شخص غير راشد ماليا، وحالة الهلع والمبالغة في الشراء مع دخول شهر رمضان من قبل أفراد يعانون تدنيا في إمكاناتهم المالية لا يمكن تفسيره إلا بغياب الرشد المالي الذي جعلهم عرضة للاستغلال وشجع على ارتفاع الأسعار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي