توجيه السفينة وليس الانسياق مع الريح «2»
تشير تقديراتنا إلى أن الاقتصادات الصاعدة – باستثناء الصين – يمكن أن تواجه خروجا لتدفقات محافظ الاستثمار في سندات الدين بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار، وهو ما يكاد يعادل حجم التدفقات المماثلة أثناء الأزمة المالية العالمية. ويجب أن نعتبر هذا صيحة تحذير.
إننا بالتأكيد لم نصل إلى هذه المرحلة بعد. لكن بعض البلدان بدأت تواجه أمواجا عاتية بالفعل. والصندوق يعمل عن كثب مع هذه الاقتصادات، من خلال التحليل والمشورة وتقديم المساعدة المالية حيثما دعت الحاجة، وسنواصل العمل على هذا المنوال.
غير أن توجيه السفينة يعني بالنسبة لمعظم البلدان إيجاد حيز أكبر للتصرف حين يحدث الهبوط القادم الذي لا محالة آت. ويمكن للبلدان الصاعدة أن تنشئ هذا الحيز بتخفيض المخاطر الناشئة عن دين الشركات المرتفع، مع ضرورة بذل مزيد من الجهود لجعل الاقتراض الحكومي أكثر ملاءمة لقدرة البلدان منخفضة الدخل على الاستمرار في تحمله.
وفي كثير من الحالات، فإن إيجاد حيز أكبر يعني السماح لأسعار الصرف باستيعاب بعض الضغوط الناتجة عن انعكاس مسار التدفقات الرأسمالية.
وفي هذا الصدد، يوضح تحليل الصندوق أن البلدان التي تطبق أسعار صرف أكثر مرونة تكبدت خسائر أقل في الناتج بعد الأزمة المالية العالمية. وخلص تحليلنا إلى أن الاقتصادات تكون أكثر صلابة حين تكون سياستها النقدية موضع ثقة أكبر، وحين تتوخى بنوكها المركزية المستقلة الإفصاح عن التطورات بوضوح.
وينبغي للاقتصادات المتقدمة أن تتخذ إجراءات من جانبها. فبإمكانها إيجاد الحيز الذي تحتاج إليه عن طريق تخفيض عجز الحكومة، ووضع الدين العام على مسار تنازلي تدريجي. وينبغي القيام بذلك على نحو عادل ومواتٍ للنمو، من خلال زيادة كفاءة الإنفاق، وضمان تحمُّل الجميع عبء التصحيح. وفي الوقت نفسه، ينبغي ألا تُغفِل البلدان جانبا آخر من ميزانياتها العمومية، وهو الثروة العامة التي تنطوي عليها الأصول المالية للحكومة، والشركات العامة، والموارد الطبيعية. وفي هذا الخصوص، أجرى الصندوق تحليلا جديدا يغطي 31 بلدا، ويوضح أن مجموع الأصول العامة يتجاوز 100 تريليون دولار؛ أي أكثر من ضعف إجمالي الناتج المحلي لتلك البلدان. ويمكن أن يؤدي تحسين إدارة هذه الأصول العامة إلى إيرادات إضافية تعادل نحو 3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي سنويا، وهي نسبة كبيرة، بل إنها تساوي ضريبة الشركات التي تحصلها الاقتصادات المتقدمة سنويا.
وهنا أيضا لا تتعلق المسألة بالإبحار المنفرد؛ حيث يتخذ كل بلد إجراءات لمواجهة قضاياه الوطنية فقط. فالوقاية من هذه الاضطرابات المحتملة تتطلب من البلدان العمل معا بطريقة تعاونية متماسكة. ومثال ذلك أننا نعلم أن الحكومة تستطيع جعل اقتصاداتها أقل عرضة للتدفقات الرأسمالية المربكة، من خلال تقليص اختلالات الحساب الجاري. كيف؟ بزيادة الاستثمار العام في البلدان التي تتمتع بمالية عامة قوية، وتخفيض عجز المالية العامة في البلدان الأخرى. هذه الإجراءات على مستوى السياسة الوطنية تتكامل فيما بينها على المستوى العالمي.
وتتطلب الوقاية من هذه الاضطرابات أيضا شبكة أمان مالي عالمية قوية، ما يعني بدوره ضرورة أن يكون الصندوق في قلب هذه الشبكة، جاهزاً بالأدوات اللازمة والموارد الكافية لأداء دوره. إنه مطلب أساسي لضمان قدرة الصندوق على القيام بدوره الفريد في مساعدة البلدان على التعامل مع الأزمات المقبلة. وهذه هي الأولوية القصوى بالنسبة لي، إلى جانب إجراء مزيد من التعديلات في حوكمة الصندوق؛ حتى تعكس التغير في ديناميكية اقتصادات بلداننا الأعضاء.
ج) إعادة بناء الثقة بالمؤسسات وصنع السياسات
وأنتقل الآن إلى التحدي الثالث، وهو إعادة بناء الثقة بالمؤسسات وصنع السياسات. إنه أمر ضروري لتحقيق نمو أكثر استمرارية، يقتسم ثماره الجميع على نطاق أوسع.
ويُعزى تراجع الثقة إلى عدة أسباب، أولها وأبرزها هو أن المهمشين لا يزالون كثرا.
ففي كثير جدا من البلدان، أخفق النمو في تحسين المستويات المعيشية للأناس العاديين، وجَعْل الآفاق المنتظرة لهم أكثر إشراقا. وفي كثير جداً من الحالات، أصبح العمال والأسر مقتنعين بوجود تلاعب في النظام، وبأن كل الفرص موجهة لغير مصلحتهم. وليس هذا مستعصيا على الفهم: فمنذ عام 1980، يستحوذ أصحاب أعلى 1 في المائة من الدخل العالمي على ما يعادل ضعف المكاسب التي يحققها النمو لأصحاب أقل 50 في المائة من الدخل... يتبع.