شمال سورية .. منطقة آمنة لتركيا وممر موت للأكراد
لقد مر شهر تقريبا منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب انسحاب القوات الأمريكية من سورية، متسببا في صدمة لأعداء أمريكا وحلفائها والمسؤولين الأمريكيين في إدارة ترمب على السواء. فقد كانت الخطوة التالية بالنسبة إلى واشنطن موضع نقاش وتمعن كبيرين. وتبقى المسألة مسألة بقاء لشمال شرق سورية وملايين الأشخاص هناك الذين حاربوا تنظيم "داعش" وبنوا ديمقراطية هشة رغم كل المصاعب وفقا لسينام محمد الممثلة الخارجية لمجلس سورية الديمقراطية في الولايات المتحدة.
فقد اتفق ترمب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان على أن خطوتهما التالية في سورية ستتمثل بإنشاء ما يسمى بـ "منطقة آمنة" تمتد إلى 20 ميلا داخل الأراضي السورية. وقد أعلن أردوغان أن هذه المنطقة ستخضع لإدارة القوات التركية وأن تركيا قد نشرت آلاف الجنود على الحدود السورية تحضيرا لهذا الإجراء. وبرر أردوغان هذه الخطوة متحججا بضرورة وجود قوة ضخمة لمحاربة الإرهاب، مع أن حدود المنطقة المذكورة تبعد كل البعد عن الجيب الأخير لتنظيم "داعش" في سورية، حيث تستمر "قوات سورية الديمقراطية" في انتزاع الأراضي الأخيرة المتبقية تحت سيطرة المجموعة.
ويشكل مخطط كهذا انحرافا جذريا عن السياسة التي ردعت تنظيم "داعش" وأرست السلام والاستقرار في ما يقارب ثلث الأراضي السورية. وإذا تم السماح لأردوغان بالمضي قدما كما يأمل، فلن تكون هذه المنطقة المزعومة "منطقة أمان"، بل ممر موت.
وإن أول الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها إدارة ترمب من خلال النظر في هذه الفكرة هو الوثوق بمحاربة تركيا تنظيم "داعش". فقد سبق أن رفضت تركيا التحرك ضد هذه المجموعة الإرهابية في أوقات عزها في عامي 2014 و2015، فغضت الطرف عن المقاتلين الأجانب الذين كانوا يعبرون حدودها. وتجدر الإشارة إلى أن المناطق التي يروج لها المسؤولون الأتراك على أنها نموذج لهذه المنطقة الآمنة، هي في الحقيقة مناطق استحوذت فيها "هيئة تحرير الشام" التابعة لتنظيم "القاعدة" على مساحات ملحوظة في الأسابيع الأخيرة فحسب.
ويتضح لأي شخص يتابع الأحداث الراهنة أن تركيا قد اتخذت إجراءات أكثر قسوة ضد "قوات سورية الديمقراطية" - التي حررت أراض سورية من قبضة تنظيم "داعش" أكثر من أي جهة فاعلة في هذا النزاع – من تلك التي اتخذتها ضد أي من المجموعات الإسلامية التي تتخذ من سورية قاعدة لترهيب العالم. حتى أن القوات التركية أدرجت هذه الميليشيات العام الماضي كشركاء لها لغزو مدينة عفرين السورية الكردية، ما تسبب في تشريد مئات آلاف الأشخاص وعرض من بقي في المدينة لأعمال النهب والقبض التعسفي والاعتناق الديني القسري والعنف الجنسي.
وبعد أن عاد السلام لهذه المدينة وانتقل اللاجئون في جميع أنحاء سورية إليها لبناء حياة جديدة، باتت عفرين الخاضعة للاحتلال التركي تذكر سكانها بالمدن الخاضعة لحكم "داعش". فقد تم منع استخدام اللغة الكردية في الحياة العامة، كما أن المدنيين يتعرضون للخطف والتعذيب بشكلٍ متكرر للحصول على فدية من أقربائهم. أما النساء فلا يمكنهن الخروج إلى الأماكن العامة من دون الالتزام بنظم اللباس الإسلامي الصارمة. وقد عمد رجال الميليشيا إلى الطلب من المسيحيين والعلويين واليزيديين، الذين كانوا يمارسون شعائرهم الدينية بفخر وبشكل علني، بأن يختاروا بين اعتناق الدين الإسلامي أو الهرب أو التعرض للقتل. وقد سبق أن أقرت وزارة الدفاع الأمريكية أن غزو مدينة عفرين وسوء الحوكمة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات المدعومة من تركيا وفرت لتنظيم "داعش" ملاذا آمنا للتجمع من جديد.
لذا لا يمكن للعالم أن يسمح بأن يتكرر ما حصل في عفرين مع 3.5 مليون شخص يعيشون حاليا في شمال شرق سورية. فتضم حدود "المنطقة الآمنة" التي يتحدث عنها أردوغان مساقط رأس جميع الأكراد والمسيحيين واليزيديين في سورية تقريبا، وكلها مجموعات تعرضت لفظائع الدولة التركية منذ نشوء هذه الأخيرة. وليست عملية التوغل العسكري التي يقترحها إلا سياسة الاحتلال والتطهير العرقي نفسها، لكن تحت تسمية جديدة.
ومن أجل تفادي إراقة مزيد من الدماء والحرص على الاستقرار في سورية، قد يكون إنشاء منطقة آمنة دولية حلا فعالا، إذ يمكن أن تخضع هذه المنطقة لإدارة القوات الدولية التي تعمل أساسا عن كثب مع "قوات سورية الديمقراطية" وتفهم أهمية المجتمع الديمقراطي والتعددي والمتساوي الذي يحاول شمال شرق سوري بناءه. ويمكن لـ "قوات سورية الديمقراطية" أن تعمل مع هؤلاء الشركاء الدوليين ضمن حدود هذه المنطقة من أجل محاربة خلايا تنظيم "داعش" النائمة – على غرار تلك المسؤولة عن الهجوم الدامي الذي وقع في منبج في وقت سابق من هذا الأسبوع – وإعادة إعمار المناطق المحررة في ما يسمح لمزيد من المواطنين السوريين المشردين أن يعودوا إلى ديارهم.
وسوف تتطلب الهزيمة المتينة لتنظيم "داعش" جهودا ملحوظة على مر السنوات بعد هزيمته من حيث الأراضي. وقد باشرت "قوات سورية الديمقراطية" والمنظمات المدنية النظيرة هذا العمل في جميع أنحاء شمال شرق سورية، إذ بدأت ببناء المؤسسات الديمقراطية وحماية الحرية الدينية والمساواة بين الجنسين وتعزيز الأمن المحلي والإعداد لحل توافقي للحرب السورية. لذا فإن "منطقة آمنة" تركية الصنع لن تسهم إلا في تحويل هذا السلام الذي تم إرساؤه بعرق الجبين إلى مزيد من الفوضى وسفك الدماء. وإذا اقتنعت الولايات المتحدة بمزاعم أردوغان، فسيتبدد الأمل الوحيد في إعادة إرساء السلام في سورية.