عيد بأية حال عدت يا عيد .. بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟!
لا بد من تأمل هذا البيت الشهير لأبي الطيب المتنبي، حتى نستحضر المعاني والعبر المستقاة منه بمناسبة عيدنا الكبير، عيد الحج والأضحى الذي يحل علينا في ظروف مختلفة عن تلك الظروف التي قيل خلالها ذلك البيت!
ونتساءل عن أية حال عاد علينا العيد، هل عاد كما كان، وبما مضى من سالف الزمان؟! أم عاد بشيء جديد؟! وما هذا الجديد؟ وما الذي تغير من أحوال العيد بين الحاضر والماضي البعيد؟! وهل حالنا اليوم أفضل منها بالأمس؟! أم تراها العكس؟! لنتفكر، لكي نتأمل ونتدبر:
1 ـ كانت المساجد والأسواق عامرة بعبارات التكبير المأثورة (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) تسمعها من المصلي والماشي والراكب، والجالس، في كل وقت وحين، وكأن لغة الناس تتعطل حين دخول عشر ذي الحجة، إلا هذه اللغة، التي تبقي القلوب خاضعة، والجوارح خاشعة، والألسن رطبة من ذكر الله!
أما اليوم فإنك لا تكاد تسمع التكبير حتى من المصلين أنفسهم، ناهيك عن غيرهم ممن تعج بهم الأسواق، يلهثون وراء حطام الدنيا، متناسين كنوز الآخرة!
2- كان الصغار يسابقون الكبار لأداء صلاة العيد في المصليات المكشوفة، بصرف النظر عن حالة الطقس، وكنا نشعر بالبهجة تغمرنا ونحن نلبس الجديد الذي لا نراه إلا في العيد! وبمجرد انتهاء صلاة العيد يتسابق الكل للسلام والتهنئة بالعيد، لمن يعرفون ومن لا يعرفون غير عابئين بالغبار الذي تثيره الأقدام، فالعيد مناسبة للتقارب والوئام، والتصافي ونبذ الخصام، حتى من كان بينه وبين أخيه جفوة وطول فراق، يسارع إلى تجاهلها ومحوها بالعناق، أما اليوم فالنائمون أكثر من الذين يصلون، ومن يصلي لا يعرف الذي بجانبه، ومنظر الصبية بصحبة آبائهم صار مما يلفت الأنظار.
3 ـ بعد صلاة العيد ينهمك الناس في إخراج أعيادهم في الأسواق، بعد أن يكون الصبية قد نظفوها في الليلة السابقة ورشوها بالماء لتثبيت التراب، وفرشوها بما تيسر من بساط أو حصير، غير عابئين بحالة الجو والهجير، كل يحضر عيده ويتسابق الكل إلى تذوق الأعياد، ويفرح إذا زاد الإقبال على عيده، كعلامة على لذته وجودته.
4 ـ كانت الأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، يشترك الجميع في حضور ذبحها وتجهيزها، وتذوق أحشائها، قبل لحمها، يأكلون ثلثها، ويهدون ثلثها، ويتصدقون بالثلث الآخر، كما هي السُّنة، ولا يبقى في البلد أحد إلا ويشبع من لحم الأضاحي يتساوى في ذلك من ضحى ومن لم يضح. أما اليوم فإن الأضاحي تذبح بالوكالة، ولا يكاد المضحي يراها إلا لحما كأنه اشتراه من السوق! وفي الوقت الذي كانت تكفي فيه الأضحية الواحدة أهل البيت وجيرانهم، ومن يتهادون معهم، بحيث ينزل الله فيها البركة، ويعم الانتفاع بها، صارت الأضاحي تذبح بالجملة لكن لا يصل من لحمها شيء إلى فقراء الحي، ناهيك عن الجيران، لأن معظمه يتحول إلى الثلاجات! وفي الوقت الذي كانت فيه الأضحية في متناول اليد بما تيسر من المال، أصبح راتب المعلمة السعودية في المدارس الأهلية، أو الموظف الصغير لا يكاد يكفي لتوفير أضحية واحدة!
5 ـ كان الناس ينشغلون خلال أيام العيد بالتزاور مع الجيران والأقرباء، لتبادل التهاني، والتعبير عن معاني الفرح والابتهاج بقدوم العيد، مبتدئين بكبار السن من العائلة والأقارب والجيران، ثم الأصدقاء وزملاء العمل، متمثلين بما في العيد من معاني الود والوئام، وصلة الأرحام، أصبح اليوم من يقوم بذلك يقوم به مكرها، وكاد الهاتف يكون هو الوسيلة الوحيدة للتهنئة، ليس عن طريق الاتصال، وإنما بواسطة رسائل الجوال، يبدأون بها قبل العيد ببضعة أيام وكأنهم يريدون أن يزيحوا عن كواهلهم الهم والآثام، وما دروا أن من يحمل الهم هو مَن يتلقى تلك الرسائل، هل يهملها شرها على مرسلها؟! أم يرد عليها بالأسلوب ذاته، وإن كان يشعر أنه بذلك يشارك مرسلها في تشجيع إهمال الواجبات، وتجاهل الحميد من العادات!.. إنه لأمر محير أن تردك عشرات الرسائل، أو ما يتجاوز العشرات، وتقف محتارا بين مجاراة مرسليها بالوسيلة ذاتها، دون اقتناع أنها تمثل الغاية والوسيلة، أو تجاهلها، أو الرد عليها بالاتصال والزيارة، لعل ذلك يرسل أبلغ عبارة؟! أو يحيى أملا في النفوس، بصورة ما درس من العادات والطقوس!
6 ـ كانت إجازات الأعياد عبارة عن يومين أو ثلاثة، يقضيها الناس في التهاني والفرحة والتواصل، والترويح عن النفوس، في البراري وعلى كثبان الطعوس، أما اليوم فقد طالت الإجازات، وتمددت، وتمدد معها الناس، مستغرقين في الاسترخاء والنوم في الاستراحات، أو داخل البيوتات، حتى ملّهم النوم، وجافاهم وهجرهم القوم!
إنني لا أقول ما قلت متشائما، ولا أسوقه متبرما ومهاجما، إنما هذا هو الواقع المعاش، في زمن الجفاف والانكماش، يوم هجر الابن أباه، وقاطع الأخ أخاه، وتفرقت العائلات، حتى غدت أشتاتا أشتات..، يوم سادت الماديات، وقضت على الجميل من العادات، وغدا الجار لا يعرف جاره، ولا يفكر فيه حتى بزيارة، يعرض عنه إن صادفه في الطريق، ولا يدعوه لفنجان قهوة أو إبريق، يوم انتشر الغش والتدليس والخداع، وصار بين الناس هو المشاع، يرتاب الشخص فيمن حوله، ولا يثمن لقائل قوله، حياة كلها مليئة بالنفاق، وبنهش الأعراض بين الرفاق، إن حضرت لا تسمع إلا المديح، وإن غبت فأنت عرضة للتجريح.
والله المستعان، وهو من وراء القصد.