الشعبوية الاقتصادية وعصر العولمة «2 من 3»

إن التفسير الخاص بالدول الغنية، يركز على الكساد الاقتصادي ومشاعر الإحباط لدى الفئات التي سبقها الركب. لكن العكس صحيح في الاقتصادات الصاعدة، حيث صعدت تيارات الشعبوية اليمينية في الدول ذات الأداء الاقتصادي القوي - وهو عكس ما قد تتوقعه فرضية "انعدام الأمن الاقتصادي"، ففي الهند والفلبين وتركيا، بلغ معدل النمو 6.5 إلى 7 في المائة منذ 2010، ولم يكن للأزمة المالية الأوروبية أي تأثير تقريبا في بولندا، التي حققت أعلى معدلات النمو على مستوى أوروبا، حيث بلغ متوسط نصيب الفرد من معدل النمو أكثر من 4 في المائة منذ 1992.
ولنتأمل جمهورية التشيك المجاورة، حيث سجل معدل البطالة 2.3 في المائة فقط، وهو أدنى معدل في الاتحاد الأوروبي، وبلغ معدل النمو الاقتصادي 4.3 في المائة في عام 2017. يقيم هناك قلة من المهاجرين، ولا تواجه البلاد أزمة لاجئين تذكر، ومع ذلك اجتذبت الأحزاب الشعبوية أربعة من كل عشرة ناخبين في أحدث انتخابات عامة أجريت هناك - وهي زيادة مقدارها عشرة أضعاف في الـ20 عاما الأخيرة.
لذلك، يبدو أن شعبوية هذه الدول وليدة المكاسب الاقتصادية، وليست نتاجا لأي خسائر. في المقابل، يفترض التفسير المعتاد أن الخاسرين في عصر العولمة هم من يتحولون إلى الشعبوية، غير أن دولا مثل هنجاريا والهند والفلبين وبولندا، حققت مكاسب واضحة من العولمة، لكنها تبنت النهج الشعبوي أيضا.
تتبقى لنا حقيقة شائكة أخيرة يجب أخذها في الحسبان: إذا كانت الشعبوية المتصاعدة انعكاسا لمطالب إعادة التوزيع، فنتوقع أن يكون هذا التصاعد على اليسار، وليس اليمين. لكن ما رأيناه من نجاح شعبوي ساحق كان من نصيب اليمينيين، سواء في البرازيل أو هنجاريا أو الولايات المتحدة، ودول عديدة أخرى في مختلف أرجاء العالم. وعلى الرغم من أن سياسات بعض هؤلاء الشعبويين يغلب أن تزيد توزيع الدخل سوءا، لا أن تحسنه، فإنهم يحظون بتشجيع الناخبين في الطبقتين المتوسطة والعاملة.
ويتمثل ذلك أحد أهم أدوار السياسة في إدارة المظالم الاقتصادية وغيرها. ويشير التحول نحو الشعبوية والسلطوية إلى فشل السياسة الديمقراطية في إدارة تلك المظالم بفاعلية. ويكمن السبب وراء ذلك في كلمة واحدة: الهوية.
وحول الحديث عن جذور الهوية، يقول فرانسيس فوكوياما، في كتابه الأخير بعنوان: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment Identity، "إن الإنسان لا يسعى - في الأغلب - إلى الاعتراف بتفرده، بل الاعتراف بأوجه التماثل والتشابه بينه وبين الآخرين". ويرغب البشر أيضا في الاعتراف بهويتهم واحترامها. ويذكرنا فوكوياما أن الفلاسفة بدءا من أرسطو حتى هيجل، عدوا أن الحافز البشري الأهم هو، الرغبة في اكتساب الاحترام، لذلك فإن "سياسة الهوية في أي مكان هي كفاح من أجل الاعتراف بالكرامة".
لكن، ما علاقة ذلك بالشعبوية؟ العلاقة كبيرة. أضف إلى التعريفات السابقة، أن الشعبوية هي أحد أشكال السياسات التي تتحايل وتؤكد الفروق بين الهويات من أجل تحقيق مكاسب سياسية. فالشعبوية نوع من أنواع سياسات الهوية التي تدور دائما حول فكرة "نحن ضد الآخرين".
وسياسات الهوية ليست موضوعا سهلا بالنسبة للاقتصاديين. فحتى وقت قريب، لم تكن الهوية تشكل جزءا من النظرية الاقتصادية. وافترضت النظرية أن لكل إنسان تفضيلات معينة، غير أن تفضيل هذا وكره ذاك لم يرق إلى كينونة متكاملة يمكن النظر إليها كهوية. لكن جورج أكيرلوف وريتشل كرانتون، كانا بداية التغيير. فقد أشارا في سياقات كثيرة إلى أن التفضيلات تنبع من اختيار الفرد هوية اجتماعية ما، وعكفا لاحقا على دراسة الانعكاسات الاقتصادية لتلك التفضيلات.
ولأن الشعبوية نوع من أنواع سياسات الهوية التي تدور دائما حول فكرة "نحن ضد الآخرين"، يعد أكيرلوف وكرانتون، رائدي نهج الهوية الذي ثبتت فائدته في دراسة عديد من القضايا، لكن فهم العلاقة بين سياسات الهوية والشعبوية، يتطلب إلقاء الضوء على ثلاث قضايا تحديدا. القضية الأولى هي، استعداد الفرد لتحمل تكلفة كبيرة، مالية أو غيرها، مقابل تأكيد هويته. ففي المدارس الثانوية الأمريكية - على سبيل المثال - سنجد أن الطلاب المعروف عنهم هوسهم بالدراسة، يجتهدون في دراستهم، بينما سيمتنع الطلاب المعروف عنهم تفوقهم الرياضي أو تعاطيهم المخدرات عن الدراسة، وستكون قدرتهم على التحصيل الدراسي أقل من غيرهم، حتى لو كلفهم ذلك كثيرا، نظرا إلى أن هذا السلوك يؤكد هويتهم ويعزز لديهم شعور الاعتداد بالنفس... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي