تسريبات ظريف .. اغتيال رمزي أم لعبة سياسية؟

تسريبات ظريف .. اغتيال رمزي أم لعبة سياسية؟
من أبرز الهتافات ضد ظريف: "الموت لوزير الأجانب".

اهتزت إيران على وقع تسجيل مسرب، مدته ثلاث ساعات من مقابلة سرية، مع محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني، أجراها معه سعيد ليلاز الاقتصادي الإيراني، في شباط (فبراير) الماضي، في إطار مشروع لتسجيل "التاريخ الشفهي" الذي يتولى إنجازه "مركز الدراسات الاستراتيجية"، التابع لرئاسة الجمهورية الإيرانية، وهو جزء من سلسلة حوارات مع مسؤولي الحكومة، غير مخصصة للنشر.
لا تزال تداعيات كرة الثلج نتيجة كلام الوزير الأنيق الذي يخلو رأسه من العمامة متواصلة داخل دواليب النظام الإيراني، حيث ينتقي كل تيار "المحافظين والإصلاحيين والمعتدلين" ما يخدم مصالحه وموقعه، في معركة الصراع الداخلي، على بعد أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية. ولا سيما أن موضوع المقابلة مرتبط بالسياسة الخارجية، وممتد لتسلم روحاني السلطة في عام 2013، وإسناد حقيبة الخارجية إليه.
تجاوزت ارتدادات زلزال التسجيل المسرب تبادل الضربات بين مختلف الأجنحة على المستوى الرسمي، والهجوم الإعلامي الناري للأصوات المحافظة على ظريف والحكومة والإصلاحيين، لتستقر لدى القواعد الشعبية بتنظيم مئات الإيرانيين يوم الجمعة الماضي تجمعا احتجاجيا أمام مكتب وزارة الخارجية في مدينه مشهد شرقي إيران، رفعت خلاله هتافات ضد ظريف، أبرزها "الموت لوزير الأجانب".

حين تكلم جواد ظريف

انتهك ظريف في هذه المقابلة حدود الدوائر المرسومة من قبل سدنة النظام، ففي حديثه غابت الخطوط الحمراء حيث ألقى ما في جعبته من أسرار وخبايا عن دور سليماني في السياسة الخارجية، وقضية الاعتداء على السفارة السعودية، والهجمات الإسرائيلية على مواقع إيرانية في سورية، وإسقاط الطائرة الأوكرانية، بين يدي محاوره، تاركا شهادة "سرية" للتاريخ، مع تأكيده غير ما مرة، خلال المقابلة، على عدم نشر كلامه.
كشف ظريف أن "الدبلوماسية" كانت ضحية "الحرس الثوري"، فكلمة قاسم سليماني كانت الأولى في السياسية الخارجية، لدرجة أنه تحمل الكثير نتيجة منح النظام الأولوية للجيش على حساب الدبلوماسية، فالقرار في البدء والمنتهى كان في يد "الميدان"، إذ "لم يحصل أن طلبت من الفريق سليماني أن يوقف مثلا العمليات الفلانية مؤقتا، لكي نحقق تقدما في المحادثات. ليس من منطلق عدم رغبتي في ذلك، فالفريق سليماني لم يكن ليوافق. لكن في المقابل، حصل مرارا أنه كان يطلب مني أن أتابع في المحادثات المقبلة الموضوعات الفلانية". بهذا يؤكد الرجل أنه كان يعمل تحت إشراف المستوى الحربي، دون استخدام الكلمة، حيث يستعير لفظ "الميدان" أو "ساحة المعركة" للإشارة إليه.
تأكيد تكرر أكثر من مرة في التسجيل، بشكل صريح ومباشر، من ضمنه قوله "في الجمهورية الإسلامية الميدان العسكري هو الذي يحكم (...)، لقد ضحي بالدبلوماسية من أجل الميدان العسكري، بدل أن يخدم الميدان الدبلوماسية". واشتكى من فقدان صلاحية التعيين في وزارته، فأغلب التعيينات في الوزارة أو بشأن السفراء في الخارج، تصدر عن جهات أمنية، فمعظم هيكل وزارة الخارجية شأن أمني.
واتهم ظريف روسيا بالسعي إلى إفشال مسار المباحثات النووية، التي توجت باتفاق عام 2015، فقد حاولت جاهدة "وضع العصي في دواليب مسار الاتفاق النووي"، عادا "هدف الروس كان يتمثل في ألا ينجز الاتفاق النووي"، مضيفا أن "زيارة سليماني لموسكو كانت بغرض وبهدف نسف منجزات الاتفاق النووي"، وزاد "نزعم أن السيد سليماني دفع بوتين إلى خوض الحرب "في سورية"، بيد أن بوتين كان قد اتخذ قراره. لقد دخل بوتين الحرب، لكن من خلال القوات الجوية، بيد أنه دفع أيضا بالقوات البرية الإيرانية إلى الحرب. وحتى ذلك الحين، لم نكن نملك قوة برية. فقد تطوع السوريون والعرب والأفغان".

حين يشهد النظام على نفسه

قد يبدو كلام ظريف في أعين غير المتابعين للشأن الإيراني قنبلة من العيار الثقيل، فيما لا يعدو أن يكون في نظر المهتمين مجرد تأكيد لبعض التفاصيل، وإثبات لفرضيات وتخمينات طالما رددها هؤلاء بناء على تأويلات تفتقد إلى سند يعضدها. صحيح أن ما قدمه ظريف اعترافات مسؤول في هرم الدولة، بوقائع طالما تكتم عليها النظام، وأنكرها باستمرار وبشكل قطعي.
لم يأت ظريف بجديد حين اعترف بأن الحرس الثوري، وبدعم من المرشد الأعلى، صانع السياسات التدخلية لإيران في المنطقة، لكن الجديد هو اعترافه بأن وزارة الخارجية تعمل في خدمة الحرس الذي اتضح أنه لا يقيم لها وزنا، ولا يراها محل ثقة لمشاركتها الأحداث المهمة. يذكر أن الرجل قدم استقالته عام 2018، احتجاجا على عدم اطلاعه على زيارة بشار الأسد إلى طهران، فقد علم بوجود الأسد في طهران من شاشة التلفزيون. وتبقى حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية عن طريق الخطأ أكثر المواقف إحراجا له، فلم يحط علما إلا بعد ثلاثة أيام، فقد ظنتها الدفاعات الإيرانية صاروخا أمريكيا، أطلق ردا على قصف إيران قاعدة عين الأسد.
ارتباطا بواقعة الهجوم على هذه القاعدة، أكد ممثل الدبلوماسية الإيرانية أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم بعزم الحرس الثوري تنفيذ الهجوم قبل حدوثه. وكشف أن مهمة الإخبار تولاها عنصران من الحرس الثوري، حيث أخبرا واشنطن من خلال رئيس الوزراء العراقي. "هل تعلمون أن أمريكا علمت بالهجوم على قاعدة عين الأسد قبل أن أسمع به أنا؟"، ثم يستطرد "لقد سمعت بالهجوم على القاعدة بعد ساعتين من إبلاغ رئيس الوزراء العراقي بذلك".
كما أثبت أحاديث راجت عن استخدام الحرس الثوري الإيراني طائرات مدنية لنقل الأسلحة والعتاد العسكري إلى سورية، مستخدما لتلك الغاية خطوط الدولة الإيرانية وشركة ماهان الخاصة بالطيران. لم يتلق ظريف هذه المعطيات من مصدر في الدولة، إنما من جون كيري وزير الخارجية الأمريكي، الذي أطلعه على أن عدد الرحلات الإيرانية إلى سورية تضاعف ست مرات، في إشارة إلى استعمال عسكري للطيران المدني الإيراني، وهو ما نفاه قبل أن تتبين له صحة الأمر، بعد عودته إلى طهران.

بحثا عن مآرب سياسية

مهما تكن الجهة التي تقف وراء التسريب، تبقى رهانها على الانتخابات واضحا لا تخطئه العين، فإن كانت محافظة، فهي تقطع الطريق أمام ترشح ظريف للرئاسيات، وإن كانت إصلاحية، فإنها تطلق حملة انتخابية مبكرة دفاعا عن حكومة روحاني. وفي حال صحت التخمينات حول نية محمد جواد ظريف الترشح لانتخابات، فإن المقابلة تصلح برنامجا انتخابيا موجها إلى الداخل والخارج معا.
يظل الرجل - رغم هجومه على الحرس الثوري، بوضع العراقيل في وجه الاتفاق النووي والتسبب في فشله، وإسقاط الطابع الأسطوري على قاسم سليماني - مؤمنا إيمانا مطلقا بأن قوة إيران تكمن في ثوريتها، ما يعني أنه لا يختلف عن قاسم سليماني في المبادئ والأسس، إنما في الأسلوب والمنهج فقط. فهو من أنصار فكرة التوازن بين الدبلوماسية والميدان للحفاظ على النظام. بهذا يسوق ظريف نفسه حاملا لواء "الدبلوماسية الناعمة" بدل "القوة الخشنة" بين يدي المرشد.
يبقى اللافت للنظر في كلام الرجل، بيانه طبيعة العلاقة بين السلطات الرسمية في إيران، والمقصود بالحكومة "المنتخبة" من الشعب، وبنية الدولة الموازية، وما يمثلها من مؤسسات أمنية وعسكرية، وكيف تتوزع مراكز القوى حول المرشد، بعيدا عن ثرثرات "الديمقراطية الإيرانية الفريدة".

الأكثر قراءة