2040 .. تقلبات وصراع ومستقبل غير وردي
أصدر مكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية، منتصف نيسان (أبريل) الماضي، تقريره الدوري، كل أربعة أعوام، تزامنا مع بداية الفترة الرئاسية، في نحو 150 صفحة، بعنوان فرعي ينذر بالسوء، "الاتجاهات العالمية 2040: عالم أكثر تنازعا"، قدم فيه رصدا استشرافيا لمجالات وحدود الصراع، بين اللاعبين الحاليين والمستقبليين، محددا في ضوء هذه النتائج اتجاه العالم خلال العقدين المقبلين.
دأب مجلس الاستخبارات الوطني منذ عام 1997 على وضع هذا التقرير بشكل تزامني مع كل ولاية رئاسية جديدة، سواء كانت النتيجة ولاية ثانية أم رئيسا جديدا، يطرح فيه تقييم الاتجاهات والشكوك الرئيسة التي ستشكل البيئة الاستراتيجية في المقبل من الأعوام. بذلك يحاول المجلس مساعدة صانعي السياسات على توفير إطار عملي تحليلي، يمكن من توقع القوى الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية والديموغرافية، التي من المحتمل أن تسهم في صياغة معالم العالم، خلال الـ20 عاما المقبلة.
لا يمكن القول: إن التقرير يرسم خريطة الوضع العالمي في أفق 2040، بقدر ما يطرح قراءات ورؤى تنبؤية، لما قد يكمن وراء الأفق، ما يجعل صناع القرار على أهبة الاستعداد لكل السيناريوهات المحتملة. نذكر، في هذا السياق، بأن تقرير عام 2008، بعنوان: "الاتجاهات العالمية 2025: عالم متحول"، توقع ظهور مرض بشري غير معروف شديد العدوى، لكن هذا التوقع لم يحظ حينها بالعناية والاهتمام المستحق، ما أدى إلى الكارثة الكونية التي يعيش العالم مجرياتها، منذ عام ونيف.
يقدم تقرير هذا العام تصورا لعالم مضطرب، تتداخل في صناعته أزمات ممتدة، من قبيل: تغير المناخ ومعضلة الأمراض وشيخوخة السكان ومشكلة الهجرة والأزمات المالية والثورة التكنولوجية والحرب التجارية والصراع على القيادة.. وكلها أعطاب ترهق الشعوب والأمم، فهي كما ورد فيما راج من أجزاء التقرير، "تولد صدمات من شأنها أن تكون كارثية".
يولي التقرير أهمية خاصة لوباء كورونا، عادا بصمته على العالم ستتراخى إلى العقود المقبلة، مؤكدا أن الجائحة شكلت "أخطر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية". فقد وضعت العالم برمته، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، أمام حقيقة الضمانات الزائفة التي تمسكت بها الإنسانية على مدار العقود الماضية، وكشفت بوضوح عن الهشاشة الكامنة في تجاويف النظام الدولي، فالجائحة ذكرت العالم بهشاشته، وأظهرت مدى ضعف النظام في الإعداد لمواجهة التحديات العالمية المتفاقمة. وكان هذا التأكيد صريحا في متن التقرير، "نحن نعلم أن العالم لم يكن مستعدا بشكل جيد لمواجهة فيروس كورونا وأن الوباء أسيء التعامل معه بشكل خطير في معظم أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة".
مثل التغير المناخي الخطر النمطي الداهم، من وجهة نظر أصحاب التقرير، خاصة بعدما اقترب كوكب الأرض من الانفجار الكبير جراء الاحتباس الحراري. ورغم العودة الأمريكية إلى تدبير ملف المناخ مع إدارة الرئيس جو بايدن، يبقى المشهد الإيكولوجي العالمي بحاجة إلى عقود زمنية لتجاوز مرحلة الخطر المحدق، هذا إن صدقت نوايا الدول الكبرى، والتزمت كل منها بتعهدات بشأن البيئة أمام أنظار العالم.
يذهب معدو التقرير إلى أن التغير المناخي كفيل بأن يحدث صراعا إنسانيا غير مسبوق، بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ذلك أن هذه الأخيرة ستكون عرضة للمعاناة، وقد يؤدي عدم قدرة حكوماتها على التكيف والاستجابة إلى موجات جديدة من الهجرة، ما سيفضي إلى إجهاد موارد وقدرات الدول المستقبلة للهجرة.
يتوقع التقرير أن تتفكك المجمعات بشكل متزايد، وللهجرة نصيب في ذلك، فصراع الهويات سيحتدم من جديد، سواء كان على أسس عرقية أم رؤى دوغمائية أم معتقدات أيديولوجية، لا فرق ما دامت النتيجة هي بحث الأفراد والجماعات عن الأمن والأمان، باللجوء إلى مجموعات متشابهة، تستند إلى هويات راسخة وحديثة، ما ينعش التوجهات القومية والعصبية والعرقية مقابل انحصار وتراجع شعارات الكونية والعولمة.
حضر الصراع على قيادة العالم في التقرير، وكانت التحولات التكنولوجية مدخله الأساسي، إذ يتوقع أن تصبح التكنولوجيا مقياسا للقدرة على اتخاذ القرارات، بناء على حجم ودقة البيانات، فالتنافس الأمريكي الصيني سيزداد مستقبلا بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي، وامتلاك تقنية الجيل الخامس من وسائط نقل البيانات قصد التحكم في تدفق المعلومات والسيطرة على التكنولوجيا الرقمية في مجال التسويق، ما يساعد على الوصول السريع إلى المجتمعات، ويتيح قدرة كبيرة للتلاعب المعرفي والاستقطاب من خلال تشكيل أسلوب تلقي الناس للمعلومات وتفسيرها والتصرف بناء عليها.
يحذر التقرير من الاستخدام السيئ للابتكارات والتكنولوجيا الحديثة، في جعل الحملات الدعائية أكثر مرونة، وأسرع وصولا إلى الجماهير مع صعوبة اكتشافها ومكافحتها، ما يضمن سهولة تكييف التواصل مع الجمهور وتوقع ردود أفعالهم. ويذهب أكثر من ذلك إلى تأكيد أن "وسائل الإعلام يمكن أن تشوه الحقيقة والواقع بشكل أكبر، ما يؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمعات".
لا يعتمد إعداد التقرير على زاوية تحليل واحدة، كما أكدت ذلك لانجان ريكهوف، مديرة مجموعة الاستراتيجيات المستقبلية، في الاستخبارات الأمريكية، بقولها: "نحن لا ننظر في مسألة واحدة فقط أو مجال واحد بشكل ضيق، نحن نحاول أن ننظر عبر كل هذه القضايا، ونسأل كيف تتطور بمرور الوقت". وبدا الأمر واضحا في تداخل المواضيع والقضايا في التقرير، فمن المشكلات التي يرجح أن تواجه السياسات المحلية، إذ "لا يبدو أن هناك منطقة أو أيديولوجية أو نظام حكم محصن أو لديه الإجابات"، إلى حرب العملات "الدولار واليورو" المقبلة، بسبب "العملات الرقمية التي تصدر من جهات خاصة، فستؤدي إلى تعقيدات في سلوك السياسة النقدية، عن طريق الحد من سيطرة الدول على أسعار الصرف والإمدادات النقدية"، وصولا إلى تقديم توصيف بأن "النظام الدولي سيكون فوضويا ومتقلبا، حيث سيتم تجاهل القواعد والمؤسسات الدولية إلى حد كبير من قبل القوى الكبرى، مثل الصين واللاعبين الإقليميين والجهات الفاعلة غير الحكومية".
تتأكد البشرية عقدا بعد آخر من أن المستقبل الوردي الموعود في كتب المنظرين الأوائل للتقدم والحداثة والعولمة، لم يقدم الصورة كاملة، قصدا أم سهوا، لا فرق في ذلك، فالرهان يبقى واحدا أيا كانت النية، إنه العمل المشترك على تصحيح الأخطاء، ما دام المستقبل والمصير واحدا، ولنا في جائحة كورونا أكثر من دروس.