طهران .. رسم السياسات الخارجية على طاولة صنع الصواريخ
شدد الحرس الثوري الإيراني قبضته الأمنية على السياسة الخارجية، بعد التسجيل المسرب لمحمد جواد ظريف وزير الخارجية، الذي انتقد فيه سقوفا محرمة في إيران، لتتم مراجعة شاملة للسياسات الخارجية والإقليمية للبلاد، من منطلق ما حققه الحرس الثوري، إذ ستزيد من تمثيل الطابع الأمني على سياستها الخارجية، متخذة من التجربة الكورية الشمالية القدوة، فلا سياسي مدنيا في التغييرات المقبلة سيتولاها فيلق القدس صاحب التجربة الأنجح إيرانيا في المنطقة خلال عهد قائده السابق قاسم سليماني، الذي قضى في العراق بغارة أمريكية العام الماضي، لتكون إدارة الملف السياسي الخارجي على مستوى الإقليم موكلة إليه، بعيدا عن القيادات السياسية التقليدية، التي اعتادت المنطقة عليها، حيث ستتم زيادة الميزانية العسكرية المرصودة لفيلق القدس، لتمكينه على مستويين سياسيا وعسكريا.
سياسة فيلق القدس متفردة في تعقيداتها، فهي تقوم على التدخل في شؤون الدول المجاورة لإيران جغرافيا أو طائفيا - على نطاق الأقليات - وتمكين الجماعات ذات النزعة الانفصالية عن الدولة، على حساب تهميش دولة المؤسسات والقضاء عليها، وتغيير التركيبة السياسية للدولة، وتحويلها إلى دولة فاشلة، لديها قدرة عسكرية محدودة نطاقها الكبير يقمع بقية المكونات ويهمشها، ومن ثم تشكيل نظام رسمي باطني، مدعوم بشرعية إيرانية، وهذا ما حصل في العراق، ولبنان، واليمن وسورية، ليقوم فيلق القدس من العمل على صنع المؤامرات لاستهداف دول أخرى، وسبق أن استهدفت البحرين، لوجود مكون شيعي فيها، لكن الفرق بين الأمس واليوم هو إعطاء الأولوية للتحرك العسكري على حساب السياسي.
دعا العميد غلام رضا جلالي فرحاني رئيس المنظمة الوطنية للدفاع السلبي إلى اتباع سياسة خارجية ذات طابع أمني مضاعف، من خلال استخدام المقاومة النشطة في ساحات المعارك، وردع استخدام العدو للقوة الخشنة، بهدف كسب اليد العليا في المفاوضات، وفعليا هذا ما نفذته ميليشيا الحوثي التي انقلبت على الشرعية في البلاد، وتفتخر إيران بهذه الاستراتيجية، التي تشمل تعزيز قوة الحرس الثوري الإيراني وإظهارها، وإجراء مزيد من التدريبات العسكرية، والكشف عن أسلحة وقدرات جديدة، ومن وجهة نظره، مثل هذه الجهود ستجعل إيران أقل ضعفا، وأكثر صعوبة للتنبؤ بخطواتها، وستجعلها في وضع أفضل على طاولة المفاوضات، مع تعقيد حسابات العدو.
سينخفض التأثير الدبلوماسي للسياسة الخارجية الإيرانية، خصوصا على مستوى وزارة الخارجية ووزيرها أيا كان سواء بقي محمد جواد ظريف أو تم تعيين شخص آخر للمنصب، إذ سيتم رسم توجه سياسي خارجي للبلاد على طاولة صنع الصواريخ في الحرس الثوري، الذي يحظى بتأييد دستوري مباشر من المرشد الأعلى علي خامنئي، وستزداد العمليات التخريبية "للحرس" طرديا مع الجهود الدبلوماسية لفيلق القدس في المنطقة، إذ سنشاهد مزيدا من العمليات التخريبية في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز، وتعريض طريق الملاحة البحري للمخاطر والاستهداف، إضافة إلى عمليات تخريبية تطول خطوط النفط الدولية، ومصافي تكرير النفط، إضافة إلى ممارسات استفزازية للقوات الأمريكية الموجودة في الخليج العربي.
سابقا، كان فيلق القدس يسير بمنهجيته متلحفا بقوى شعبية، ذات ولاء إيراني، وكانت المصالح متبادلة بين الطرفين على أساس المنفعة المشتركة، إذ كان يهدف قاسم سليماني وهو صاحب البصمة الكبرى إلى تمكين شركائه العسكريين، في مناطق النزاع، والحصول على شرعية التدخل والمشاركة بعد تمكينها، ليصبح الولاء للقيادة الإيرانية على حساب الانتماء للأرض التي يعيشون فيها، وهذه التجربة كانت حاضرة في لبنان، بدعم مفتوح لقيادات طائفية من الجيش السوري، وتحويل عقيدة الجيش القتالية من جيش وطني إلى جيش طائفي، يحمي ويدافع عن شخصيات ومراقد ومقامات، على حساب تدمير الوطن وتشريد شعبه.
التجربة السورية لفيلق القدس كانت متشعبة حتى طالت لبنان، من خلال مشاركة ميليشيا حزب الله اللبناني هناك، وكانت ذات راجع إيجابي على إيران، حيث شكل تكتيك فتح مناطق حدودية مشتركة، ووضعها تحت تصرف فيلق القدس، ووضع لبنان وطاقاته كمستودعات للقوات الإيرانية، مقابل دعم بالمال والسلاح لحزب الله، فائدة تفوق جهود وزارة الخارجية منذ الثورة، حيث تمكنت إيران وذراعها الشيعية في لبنان، من تعطيل الحياة السياسية في البلاد وجعلت منها قاعدة إيرانية، ذات توجه انقلابي، سخرت لبنان ومخيراته ومدخراته تحت سيطرة إيران ونظامها، إذ شهدت مرحلة ما بعد سيطرة العهد الجديد - اتحاد حزب الله والرئيس عون وحركة أمل - تسليم مفاصل الدولة اللبنانية إلى إيران، ما نتج عنه نهب خزانة المصرف المركزي للبلاد، ووضعها تحت تصرف إيران للتخلص من أزمات العقوبات المفروضة عليها.
الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية لفيلق القدس على موعد مع المحادثات التي تبحث الإجراءات الفنية للبرنامج النووي الإيراني في فيينا مع دول"4+1"، بمشاركة أمريكية غير مباشرة، وتأتي هذه المحادثات بعد رفض ميليشيا الحوثي لقاء مارتن جريفيث مبعوث الأمم المتحدث الخاص، في العاصمة العمانية، مسقط، فيما يماطل النظام الإيراني في تمديد وقت المحادثات حتى يلملم أوراقه بعد الانتخابات الرئاسية، التي ستأتي - بحسب المؤشرات - برئيس متشدد من المحسوبين على الحرس الثوري، حيث إن ظريف لا مكان له بعد التسريبات الأخيرة بحسب مراقبين.
تصرفات الحرس الثوري خيبت توقعات الرئيس بايدن بتعديل السلوك الإيراني، إذ يعد تعديل السلوك أساس تسوية الأزمة المتفاقمة مع إيران، لكن مع تسلم فيلق القدس ثقل إدارة السياسة الخارجية، فالتسوية بعيدة جدا عن التحقق، خصوصا أن صقور النظام الإيراني عازمين على مزيد من التدخل في شؤون الدول الأخرى، إضافة إلى أعطاء ميليشياتها المنتشرة في دول المنطقة استهداف مصالح الدول الأخرى، وهذا حاضر لالتزامات المرشد الإيراني علي خامنئي، بتأكيده على التزام طهران دعم حلفائها في الشرق الأوسط، واعتبار وجودها الإقليمي ضرورة يجب أن تكون وستستمر، كما لا يوجد في القاموس السياسي للمرشد أي نية للتنازل عن البرنامج الصاروخي الإيراني.