الانتخابات الإيرانية .. ولادة عسيرة لدولة المرشد
الثورة الإيرانية على موعد مهم في تاريخها وأبرز محطاتها السياسية، إذ تشكل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة، حالة ولادة عسيرة لنموذج سياسي جديد، مبني على تراكمات العزلة وعدم القبول من قبل المجتمع الدولي، فيما تعاني هذه المؤسسة تشوهات في ملامحها وسلطاتها، إذ تخضع لسيطرة مؤسسة المرشد الأعلى، الذي يمسك بمفاصل الحكم في كل الدولة.
ويسعى المحافظون من رجالات المرشد لإجهاض كل الجهود المبذولة من قبل فريق الاعتدال السياسي في البلاد، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد منح فيلق القدس الضوء الأخضر لإدارة ملف السياسة الخارجية للبلاد، لكن التيار الإصلاحي في إيران مطلب شعبي قبل كل شيء، وهذا عائق في وجه سلطة مستبدة، قد تكون مجبورة على ممارسة البطش الأمني في الانتخابات لتمرير رؤيتها السياسية رغما عن أنف الشعب، لكن هذا الخيار يواجه خيارات معقدة وصعبة، فالشعب الإيراني يقف على صفيح ساخن، وأي مهاترة من قبل النظام قد تأخذ الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه.
الاستحقاق الرئاسي في إيران يكتسب أهميته من منطلق علاقة النظام الحاكم في إيران بالمجتمع الدولي، التي تتصف بالتوتر في أغلبها، خصوصا أن النظام هناك يسعى إلى الحصول على السلاح النووي، الذي يهدد العالم والمنطقة، إضافة إلى عمله الدؤوب على تطوير منظومة صاروخية متوسطة وبعيدة المدى تهدد المصالح الغربية في الخليج العربي، كما أن النظام يمارس كل أشكال التدخل غير الشرعي في علاقاته بدول الجوار والمنطقة بالتدخل في شؤونها، وإعطاء نفسه الحق في دعم أقليات طائفية وتمكينها من الدولة، ومن ثم الانقلاب عليها.
كما تجلب الانتخابات أنظار العالم بخصوص عدد من القضايا، وهي توقيع اتفاق التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، وانعكاس ذلك على المصالح الأمريكية وصراع النفوذ بين بكين وواشنطن، فيما شهدت الآونة الأخيرة تحركا فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني والمفاوضات لتوقيع اتفاق جديد تكون واشنطن طرفا فيه، عقب الذي وقعه الرئيس باراك أوباما 2015، وانسحب منه الرئيس الجمهوري دونالد ترمب في 2018، كما أن أهمية هذه الانتخابات مرتبطة بحدث داخلي مهم جدا هو مرض علي خامنئي المرشد الإيراني الأعلى، الذي قد يتوفى خلال الفترة المقبلة، وسيورث إرثا كبيرا لخلفه، ما يعني أن الفريق الفائز سيكون له تأثير كبير في رسم المشهد السياسي الإيراني المقبل سواء كان داخليا أم خارجيا.
شهدت المرحلة التأسيسية للانتخابات الرئاسية استبعاد عدد من المرشحين، وذلك بعد إجماع التيار الإصلاحي المعتدل على ترشيحهم، وهم محمد جواد ظريف وزير الخارجية الحالي، وكذلك حسن الخميني حفيد مؤسس الثورة الإيرانية، كما تشير الأحداث السابقة إلى تورط مؤسسة المرشد الأعلى في تسريب تسجيلات جواد ظريف، لإقصائه من السباق الرئاسي، ويهدف التيار المتشدد من حركة الإقصاء الكبيرة، إلى إبعاد أي إصلاحي معتدل من السلطة، للحصول على رئيس متشدد يدير دفة الحكم كما تريده الرؤية السياسية للمرشد ومن خلفه الحرس الثوري، الذي يخطط لنقل السلطة بحسب الطريقة الملائمة التي يراها، التي تضمن بقاء سياسات طهران كما هي عليه الآن.
الأعوام الثلاثة الماضية شهدت تأزما على الصعيد الاقتصادي، بسبب العقوبات القصوى المفروضة أمريكيا من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وهذه العقوبات لها تأثير مباشر في إعادة تشكيل المشهد السياسي الإيراني، خصوصا هذه الأيام، التي تسبق المرحلة النهائية من الانتخابات، التي سيكون تأثيرها في شخصية الرئيس وخلفيته، وكذلك السياسات، التي سيتبعها، لكن هذه الانتخابات ستكون الأكثر فقرا من ناحية التصويت فيما يخص الشارع الإيراني، الذي يعيش معاناة مستمرة، طوال العقدين الأخيرين بسبب سياسات النظام، حيث شهدت الانتخابات البرلمانية السابقة فبراير 2020 تدني الإقبال على التصويت بنسبة 49 في المائة، وهذا مؤشر كبير على أن نسبة إقبال المصوتين على هذه الانتخابات ستكون متدنية أو أكثر تدنيا من تلك النسبة، فيما تشير استطلاعات رأي أجرتها مؤسسات رسمية إلى أن نسبة المشاركة المحتملة إلى الآن ستكون عند 39 في المائة.
التجارب الانتخابية السابقة تظهر توزع الثقل الانتخابي في إيران ما بين التيارين المتنافسين، إذ يهيمن التيار المحافظ على المدن الصغيرة والقرى والأرياف، خصوصا أن التركيبة السكانية لهذه المناطق ذات طابع قروي وتعليمي أقل، وهي المدن التي تزود الحرس الثوري والفصائل المسلحة ذات الولاء للمرشد الأعلى، فيما يسيطر التيار الإصلاحي على المدن الكبرى ذات التنوع العرقي، وفيها مكونات اجتماعية مختلطة، كما أنها فئات متعلمة وصاخبة، وتعارض سياسات النظام الإيراني، وسبق أن شهدت انتخابات 2009، احتجاجات طلابية وشعبية واسعة، وكانت النتيجة حملة قمع واسعة لكل من شارك في الاحتجاجات.
تعيش التيارات الإصلاحية التي تريد المشاركة في الانتخابات الرئاسية حالة من الخلاف وعدم الثقة ببعضها بعضا، وذلك بشأن كيفية خوضها الانتخابات، وطريقة تعاملها مع الحكومة، خصوصا أن بعض التيارات الإصلاحية تعد المشاركة مع الحكومة في تشكيل التحالفات خاطئة من أساسها، لكنها ترى أن الحل الأكثر جدوى هو ترشيح مرشح رئاسي مستقل، بعيدا عن أي تحالفات مع الحكومة، حتى يكون الإصلاح حقيقيا، فالتحالف مع الحكومة في عهد روحاني لم يجلب للإصلاحيين سوى السمعة السيئة، ولا نية للتنازل خلال هذه الانتخابات، فإما أن يكون المرشح مستقلا أو لا داعي للمشاركة.
انعكست نتيجة الانتخابات الأمريكية إيجابا على التيار الإصلاحي، إذ يرى كثير من الإصلاحيين أن صعود إدارة ديمقراطية إلى الحكم في واشنطن أعطى زخما كبيرا للتيارات التي تؤيد المشاركة في الانتخابات، بعد أن عمقت سياسات إدارة ترمب توجهات الإصلاحيين إلى العزوف عن خوض التنافس الانتخابي، ورجحت كفة من يؤكد عدم جدوى المشاركة حتى نهاية خريف 2020، لكن تحركات بعض الوجوه الإصلاحية بعد صمتهم خلال المرحلة السابقة كانت ترى أن صعود الديمقراطيين في الولايات المتحدة يمكن أن يترك أثرا إيجابيا في شعبية الحكومة والتيار الإصلاحي الحليف له، إذا توجهت الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تخفيف العقوبات، لكن هذه التوجهات لا تروق للتيار المحافظ، الذي لا يرى إلا لغة التدخل في دول المنطقة، وتهديد أمن واستقرار العالم.