أوروبا .. ماذا أبقى تجسس الحلفاء للخصوم؟
عادت فضيحة تجسس وكالة الاستخبارات الأمريكية لتغيم على الأجواء الأوروبية، بعد تسريب نتائج تحقيق سري داخل جهاز المخابرات الدفاعية الدنماركي، عرف باسم "عملية دنهامر"، كشف عن استغلال الوكالة شراكة مع وحدة تابعة للمخابرات الخارجية في الدنمارك، للتجسس على مسؤولين كبار في دول مجاورة، ما سبب إحراجا كبيرا لكوبنهاجن أمام جيرانها الأوروبيين، وفتح الباب مجددا لأسئلة قديمة تتجدد، بعد كل أزمة أو اصطدام، حيال الذات الأوروبية الجماعية، أو ما يعرف بالهوية أو "النحن" الأوروبية.
تفيد نتائج التحقيق بأن الأمريكيين استخدموا كابلات دنماركية خاصة، للتنصت على مسؤولين كبار في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا. واقعة عدتها أصوات عديدة في العواصم الأوروبية بمنزلة انحياز من الدنمارك إلى جهة واشنطن على حساب الجيران في النادي الأوروبي. فالظاهر، بحسب هؤلاء، أن كوبنهاجن أيقنت بأن عائد مصالحها الاستخبارية مع واشنطن أفضل مما تحصده مع الأوروبيين، ما ينذر بفتح شرخ جديد في التعاون الأمني الأوروبي.
ويزيد الأمر تعقيدا حين نعلم أن عملية التجسس الأمريكية الدنماركية، كانت ضد دول تصنف ضمن خانة الحلفاء، بالنظر إلى ما يربطهما من شراكات قوية وعلاقات جيدة. يذكر أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أعربت عن استيائها، من واقعة التجسس الأمريكي، أمام وسائل الإعلام، وقبل انكشاف التورط الدنماركي، بقولها "الأصدقاء لا يتجسسون على بعض".
من جانبه، عد بارت جروثيس، عضو البرلمان الهولندي المسؤول عن لجنة إعداد مشروع قانون جديد للأمن السيبراني، "التجسس السياسي لا يحظره القانون الدولي. هذا هو الواقع. إنه ليس لطيفا، إنه ليس دوما لائقا، لكن لا توجد مشكلة في ذلك عندما تفكر في القانون الدولي"، واصفا ما جرى بأنه "قنبلة من شأنها أن تقوض التعاون الأوروبي"، وأضاف أنه "يفضل أن تتضمن قوانين الاستخبارات الوطنية بندا، ينص على أنه من حيث المبدأ لا نتجسس على الدول الشريكة داخل الاتحاد الأوروبي".
فيما تعاطى آخرون مع الأمر بشكل عادي، أمثال الألماني باتريك زيسبرج، رئيس لجنة التحقيق في البرلمان الخاصة بفضيحة التجسس، مؤكدا أن "حالات التنصت مثل هذه ممارسات شائعة... ويجب علينا أن نفهم نظام أجهزة المخابرات. الأمر لا يتعلق بالصداقات ولا بالواجبات الأخلاقية، إنما أساسا بفرض المصالح". وذهب كالى هوكنسون، الخبير في معهد السياسات الخارجية في ستوكهولم، إلى أن "بعض الدول التي تمتلك القدرات والإمكانات الكبيرة، لا ترى حرجا في أن تستغلها لمصلحتها، وإن كانت تجمعها بالحلفاء الذين تتجسس عليهم علاقات قوية".
أيا كان التقدير حيال الأمر، فالجدير بالذكر أن زمن إثارته ليس بريئا، إذ يأتي قبل أيام من توجه الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى أوروبا، تحديدا مدينة كورنوال، جنوب غرب بريطانيا، للمشاركة في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، من 11 إلى 13 حزيران (يونيو)، التي ستكون بهدف "إعادة بناء العالم"، فهي أول قمة للمجموعة منذ بداية جائحة كورونا. هدف يحتاج قصد تحقيقه إلى عنصر الثقة الذي اهتز كثيرا جراء الحادثة، ما يعني أن الرئيس الأمريكي مطالب بمعالجة وتصحيح الوضع.
يذكر أن واشنطن وبروكسل تخوضان حاليا مفاوضات بشأن اتفاق جديد لنقل البيانات عبر الأطلسي، ليحل محل صفقة سابقة أوقفتها المحكمة العليا في الاتحاد الأوروبي، بسبب مخاوف بشأن التجسس الأمريكي، ما يعني أن تدوير القضية في ضوء المعطيات الجديدة من شأنه أن يؤدي لا محالة إلى زيادة تركيز الاتحاد الأوروبي على سلطات التجسس الأمريكية، وعلى القيود القانونية والضمانات الحمائية لبيانات الأوروبيين.
يحتفظ التاريخ بوقائع عديدة للتجسس بين الأوروبيين في سجلاته، على غرار ما وقع بين بريطانيا وألمانيا، وقصة "آلة آنيجما" الشهيرة، إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفضيحة "عملية شامروك" التي اكتشفت عام 1975، بعد أن استمرت وكالات الاستخبارات في بريطانيا وأمريكا ومراكز الاتصال ووكالة الأمن القومي في التجسس، طيلة أعوام ما بعد الحرب، بموجب اتفاقات سرية وغير قانونية مع شركات الكابلات الأمريكية الكبرى على اتصالات 60 إلى 70 سفارة أجنبية في أمريكا.
ما يفيد بأن هذه الممارسة ليست بالشيء على السياسة الأمريكية، لكن المثير للدهشة هو استخدام واشنطن للدنمارك، هذه الدولة الصغيرة في شمال أوروبا لتكون قاعدة لها من أجل التنصت على حلفائها في القارة العجوز. ربما يجد ذلك تفسيره في التاريخ بالتعاون المشترك بين أجهزة المخابرات في الدولتين، حتى قيل "إن الدنمارك أصبحت نوعا ما، وبحكم الواقع، عضوا غير رسمي في "نادي العيون الخمس" يجمع استخبارات الدول الخمس الرئيسة الناطقة بالإنجليزية".
تعود بداية التقارب بين الدولتين إلى بداية التسعينيات، بعدما أدركت كوبنهاجن أنها تحتضن منجما لا ينضب من المعلومات، من خلال توافر الكابلات البحرية التي تمر عبر أراضيها، التي تنقل الاتصالات الإلكترونية بين الولايات المتحدة وأوروبا تحت سطح مياهها الإقليمية. ونجح جهاز المخابرات في زرع أجهزة على هذه الكابلات البحرية، وتحويل الأمر إلى مصدر للحصول على الأموال من أجهزة المخابرات الأمريكية.
وحتى عندما خططت وكالة الأمن القومي الأمريكية، في العشرية الأولى من القرن الحالي، لإقامة مركز بيانات في شمال أوروبا، قصد معالجة جزء من المعلومات التي تجمعها عن القارة العجوز، كانت الدنمارك المرشح الطبيعي والأفضل لإنشاء هذا المركز، ما عجل ببناء مركز معالجة معلومات كبير بمساعدة أمريكية على جزيرة أماجير، شرق كوبنهاجن، يتيح لاستخبارات الدولتين الاستفادة من جميع الاتصالات المعترضة، وكان من ثمار هذا التعاون حصول كوبنهاجن على رصيد سياسي في واشنطن، ما كانت لتحصل عليه لولا التعاون بين الجواسيس.
بعيدا عن تداعيات تدوير وتدويل الحادثة داخل النادي الأوروبي، وتأثير ذلك في علاقات بروكسل بواشنطن، تثار مسألة حقيقة ادعاءات حقوق الإنسان و"قدسية الحياة الشخصية" داخل الدول الأوروبية، فماذا سيبقى للمواطنين العاديين بعدما أضحت حياة القادة والزعماء مستباحة بهذه الشاكلة؟ ويزيد من تأكيد مشروعية هذا الاستفهام، تعليق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على واقعة التجسس بلغة محايدة، أقرب ما تكون إلى الاعتراف الضمني بالأمر، بقوله "إذا كانت هذه الاكتشافات صحيحة، فأنا أريد أن أقول إنها غير مقبولة بين الحلفاء"، وأضاف "إنني مرتبط بعلاقات بين الأمريكيين والأوروبيين تقوم على الثقة. ليس هناك مساحة بيننا للشك".