اتساع رقعة النفوذ الروسي وعدم جدوى العقوبات الأمريكية
تمارس القيادة الروسية دورا رياديا على مستوى العالم، بمزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم، على الرغم من الفارق الكبير على المستويات المختلفة سواء الاقتصادية أو العسكرية أو النفوذ، لكن موسكو رسمت معادلة معقدة في التعامل مع واشنطن، كانت الغلبة فيها كثيرا ما تكون لمصلحتها، بفضل كاريزما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي شاب علاقته كثير من المسائل الشائكة مع رؤساء أمريكيين، أبرزهم آخر الرؤساء جو بايدن وسلفه دونالد ترمب، الذي كان الأصعب والأثقل على أغلبية رؤساء العالم، لكنه كان متهما بالحصول على مساعدة بوتين للوصول إلى البيت الأبيض، لتضع روسيا نفسها في مقدمة الدول الكبرى بتحدي الولايات المتحدة، وأنها ليست حبيسة لعقوباتها.
تزاحم روسيا واشنطن عسكريا على مستوى الصناعات والسيطرة على مبيعات الأسواق الدفاعية العسكرية، كما توجد ساحة جديدة للمزاحمة بين الدولتين على صعيد النفوذ البحري، حيث سبق أن وجهت موسكو تحذيرا إلى واشنطن مفاده أن بإمكان السفن الحربية الروسية أن تضرب السفن الحربية الأمريكية في أي بقعة في البحر المتوسط، حين أطلقت وحدات بحرية روسية صواريخ "كاليبر" قبل أعوام، إذ تركز الخطة الاستراتيجية للقوات البحرية الروسية على منافسة الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض المتوسط، فيما يتجاوز الأمر الصعيد العسكري، إلى الاقتصادي.
وفي السياق ذاته، سجل العالم انخفاضا في معدلات النمو نتيجة لتفشي جائحة كورونا، وهو ما وضع كثيرا من التحديات الاقتصادية والتجارية عالميا، بما في ذلك روسيا، التي عقدت منتدى سان بطرسبرج، الذي مثل فرصة أمام الروس ليبرهنوا على أن المنتدى هو الحدث الاقتصادي الأكثر أهمية، حيث شهد المنتدى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية عدة، وفيه تم الاتفاق على معظم صفقات صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي، كما أنشئت خلاله علاقات اقتصادية عدة لروسيا مع شركائها الخارجيين.
خارجيا، ألقت روسيا بثقلها نحو الأزمة السورية، وبوتيرة أقل نحو الأزمة الليبية، ساحبة البساط من تحت أقدام واشنطن التي انسحبت من الأراضي السورية، تحديدا المناطق الحدودية ذات الأغلبية الكردية، عقب إعلان الرئيس السابق ترمب في ديسمبر 2018، لتعزز روسيا وضعيتها على المستوى السياسي الإقليمي والدولي، حيث إنها دولة عظمى لها كلمتها وقدرتها على الفصل في القضايا الدولية، خصوصا تلك التي تمس أمنها القومي أو مصالحها الاستراتيجية، ولم تعد تلك الدولة المهلهلة اقتصاديا، بحيث يمكن الضغط عليها سياسيا، بل صارت لاعبا أساسيا في عديد من القضايا الدولية، إذ باتت رقما صعبا في الأزمة السورية، وقوة كبرى يسعى حلف الناتو لبناء جسور التفاهم معها، ولاعبا ذا قيمة في الأزمة الليبية.
بلا شك، أرسلت موسكو إلى واشنطن رسالة مفادها أن روسيا ليست حبيسة في سجن العقوبات المتخذة بحقها أمريكيا، بسبب العلاقات الاقتصادية الوثيقة لموسكو وشركائها، حيث أعطت سياساتها تجاه حلفائها انطباعا بأنها دولة لا تتخلى عن شراكاتها السياسية والاقتصادية، ولا تترك حلفاءها وحيدين، في حين عانى جميع حلفاء واشنطن سياسات الرئيس السابق ترمب، الذي فرض الضرائب والمطالبات المالية على أقرب الحلفاء لبلاده، حتى إنه طالب حلفاءه في الناتو بالدفع لبلاده، وذلك مقابل حمايتها لهم -كما كان يدعي ترمب-، فيما لم تسجل حالة مطالبة واحدة لروسيا للدول والكيانات، التي وقفت بجانبها، بل عززت تلك الشراكات بافتتاح قواعد جوية وبحرية ذات ثقل جغرافي، كما حصل على الساحل السوري، بافتتاح أكبر قاعدة بحرية روسية في الخارج.
كما وظفت موسكو نفوذها العسكري والأمني الكبير في سورية، من خلال توقيع عقد لتأجير ميناء طرطوس لمدة 49 عاما، بداية من عام 2019 لكي تستخدمه كقاعدة تجارية خارجية لها في أغراض النقل والتعاملات الاقتصادية، بالتوازي مع توقيع اتفاق داعم بين الجانبين يقضي بتوسيع مركز الإمداد المادي والتقني التابع للأسطول الحربي الروسي في طرطوس، ووفقا لما أعلنه يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء الروسي فإن روسيا تعتزم تطوير الميناء التجاري في طرطوس من خلال ضخ استثمارات بنحو 500 مليون دولار في مدة أقصاها أربعة أعوام، وبالمثل سعت تركيا لتوظيف دورها العسكري المتنامي في غرب ليبيا من خلال التوقيع في 2020 على اتفاقية تجارية مع حكومة الوفاق الليبية، منحت شركة "إس سي كي" التركية السيطرة على ميناء العاصمة الليبية طرابلس، وهي الاتفاقية التي أثارت سخطا داخليا حتى من غرفة الملاحة البحرية في طرابلس، وخارجيا خصوصا من جانب فرنسا.
تسعى روسيا منذ أعوام للحصول على موطئ قدم في "المياه الدافئة"، وعلى الرغم من الأهمية التي يقدمها ميناء طرطوس السوري بشقيه العسكري والمدني في تلبية هذا المطلب، تواجه روسيا تحديات في التمدد لأبعد من ذلك خاصة في البحر الأحمر، حيث حال الرفض الأمريكي دون حصول روسيا على قاعدة في جيبوتي 2014، كما باءت الترتيبات الروسية مع اليمن قبل الانقلاب الحوثي بالفشل، لكن تم التوافق الروسي السوداني على تأسيس قاعدة بحرية روسية، الذي تم الإعلان عنه تدريجيا، من خلال الإعلان في أيار 2019 عن بدء استخدام السفن الروسية منشآت بورتسودان، قبل أن يتم الإعلان في نهاية 2020 عن تأسيس قاعدة للدعم اللوجستي للسفن الحربية الروسية في شمال مدينة بورتسودان بموجب اتفاقية بين الدولتين، لكن -بحسب محللين-، تبقى هذه الاتفاقية رهن الالتزام السوداني، حيث عقدت في عهد الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير.
وسبق أن رد بوتين بقسوة على تصريحات، جاء فيها أن سيطرة روسيا بمفردها على الثروات الطبيعية الهائلة لمنطقة سيبيريا أمر غير عادل، بـ"أن هنالك من يريد عضنا وقضم شيء منا، لكن يجب على الذين يرغبون في فعل ذلك أن يعرفوا أننا سنكسر أسنانهم كي يفقدوا قدرتهم على العض"، مشددا على أن هذا الأمر واضح تماما، لافتا إلى أن مستوى تطور القوات المسلحة الروسية يمثل دليلا على ذلك، وعلى الصعيد الداخلي لموسكو تدرك القيادات الأمريكية والأوروبية أن الرئيس بوتين لا يزال الرجل الأقوى لروسيا، على الرغم من تقدمه في العمر، وأنه لا يزال ممسكا بزمام الأمور في بلاده، ومسيطرا على كل مفاصل الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، ولا جدوى من محاولات تقديم الدعم المادي أو غيره إلى منظمات المجتمع المدني الروسية، أو دعم المعارضة الروسية، لأنها لن تؤتي أكلها على النحو المرجو.