تفكيك حبائل أيديولوجيا التطرف
يتعدى كتاب "وعد الآخرة" لعادل الحسني الكاتب المغربي، الصادر 2020 عن دار العرفان للنشر والطباعة، حدود السيرة الذاتية الشخصية، ليصبح شهادة على سيرة جيل بأكمله، جيل الصحوة الذي تأثر بموجات تسييس الدين في العالمين العربي والإسلامي، وما تلا ذلك من حروب "أفغانستان والبوسنة والشيشان..."، وصولا إلى تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما أعقبها من حرب على الإرهاب، لم تتوقف رحاها عن الدوران بعد. حقيقة كشف عنها المؤلف في تقديم الكتاب، مؤكدا أنه "سيرة ذهنية تحكي تفكيرا احتل عقدين من حياتي، حكاية عن الماضي، تعطي صورا وتعابير عما أصبح عليه اليوم تفكير جهادي سابق".
يحكي الكتاب، في خمسة فصول مثيرة، مسيرة مسلح مغربي، منذ التحاقه بـ"التنظيم"، بعد حصوله على "المنحة المسمومة" بتعبير الكاتب، إلى لحظة "اختطاف الوعي" بخديعة الخلافة الرائجة في أسواق بيع الوهم، ثم تفاصيل الاعتقال وتجربة السجن والمحاكمة، على خلفية أحداث 16 أيار (مايو) 2003، في مدينة الدار البيضاء، انتهاء بنيل الحرية المادية "السجن" والحرية الفكرية "التنظيم"، وما تحمله حياة "جهادي سابق" من آلام وآمال وأسئلة كبرى.
صحيح أن عادل الحسني في سرده ينطلق من تجربة ذاتية، ما يفتح الباب مشرعا للتحيز، ويضع سطرا عريضا تحت مسألة الحياد، فيما تقدمه الوثيقة من معطيات. لكن الكاتب، على ما يبدو، فطن إلى الأمر مبكرا، حين قال "لا تسعفني الثقة بأن أدعى وعيا رفيعا، يكتب عن الأمن الروحي، لحماية مستقبل الأجيال من التطرف، لكن أثق من خلال تقديم تجربة حياة، بأن هذا الكتاب سيساعد على محاصرة أنماط التفكير المتطرفة من زاوية التدين، بالتنبيه إلى خطر الوسطاء الدينيين على المجتمع، وفضح دورهم في إعادة إنتاج الاستبداد والعنف".
حبائل أيديولوجيا التطرف
يستهل الكاتب سيرته بتشخيص مفصل عن المداخل التي يعتمدها المتطرفون للاستقطاب، مستغلين الأعطاب التي تنخر مفاصل الدولة، حيث تخلت أغلب المؤسسات عن الاطلاع بالأدوار المسندة إليها، بذلك يكون الجهادي - في منظور الحسني - مجرد نتيجة لجفاف المبادرة في المجتمع، فالأحزاب السياسية لا تظهر حتى موعد الانتخابات، بحثا عن غنائم المقاعد، فيما تحرص جمعيات المجتمع المدني على البقاء في فلك السلطة، طمعا في الدعم والتمويل، ويبقى هم الدولة الوحيد احتكار الشأن الديني المنفلت من بين يديها، لمصلحة الحركات الدينية.
شكلت تجربة الانتماء إلى "التنظيم" عنصر قوة، منح الكاتب فرصة الاطلاع من كثب على مختلف الأساليب، ومواكبة جميع مراحل صناعة شخصية جهادية، وسط مجتمع هوياتي منغلق، يسقط قيم التعددية ومبادئ الاختلاف، نظير الانتصار لمفهوم "الأمة" الذي يظل منحة مجانية، لما يشبه تعاونية من المجتمعات المهزومة، لا ينقصها سوى العودة إلى الأصل الممنوح والخارج عن الهويات المحلية التي تم التنكر لها.
تعمل هذه الأيديولوجية على تذويب أعضائها في بوتقة التنظيم، فلا هوية مرحب بها داخل التنظيمات غير "العروبة والإسلام"، فأي حديث عن هويات محلية أخرى يهاجم بشراسة، لأنه يمثل أساسا للفتنة والفرقة، ليبقى الدين الإسلامي وحده كفيلا بضمان الكلمة الواحدة لاستقرار المجتمع والأمة. لذا لا يدخر خطاب الصحوة جهدا في هدم الهويات المحلية "غير الدينية"، فالأمازيغية الهوية الأم للكاتب الذي وجد نفسه في مواجهتها، لا تحضر إلا عند الإشارة إلى حسن إسلام الأمازيغ.
الحرص على صناعة هوية جديدة للمنتمين غايته إعادة برمجة حياة الأعضاء، باتخاذ مواقف سلبية من كل زوايا الحياة، بدءا من النفس وصولا إلى الغير، من خلال "مراكمة الكره للآخر المختلف عنا دينيا، ثم عن التوجه الطائفي داخل الدين نفسه، ثم عن التوجه المذهبي داخل الطائفة نفسها، وتتواصل عملية الانقسام النفسي إلى أن تظهر في صراع قاتل في الواقع للحصول على الشهادة".
يسعى "التطرف" إلى القضاء على مباهج الحياة، فحتى يكون تدين الفرد متوافقا مع معتقدات "التنظيم"، عليه أن ينزع من نفسه الإقبال على الحياة. فالتدين في الأصل تجربة جميلة، عاش فيها الكاتب حياة اتحد فيها الوجود بأشخاصه وأشيائه وأفكاره في جمال صوفي، يتحرك فيه الكل وفق انسجام تام، لتحقيق جمال العلاقة مع الله. بيد أن هذه التجربة سرعان ما تنكسر بتدخل الوعاظ "الوسطاء الدينيين"، لإجبار المتدينين على الاختيار بين نصوص منتقاة وبين عادات وأعراف وقيم إنسانية.
يلغي اعتناق العقيدة المتطرفة كل تعبيرات الجمال، في تجربة التدين الفردي، لمصلحة إثبات قاعدة تربط - وفق تعبير عادل الحسني - "عودة عزتنا ومجدنا بترك الفن والحب، وتربط بصوت أخاذ مسؤولية بؤسنا بفساد البر والبحر، الذي لا يرى سوى في عري فتاة أو غناء جميل، أو تعطيل نص يجز رقبة أو يقطع يدا".
منظومة حبلى بالتناقضات
سرعان ما يتحول الفرد بفضل ثقافة الشحن والتحشيد التي تشكل عماد أيديولوجيا التطرف إلى كائن خاص، يسهل على الانصياع والضبط والتوجيه، والقدرة على العيش في عالم من التناقضات. فاليقين السريع السائد داخل هذه المنظومة مريح ومطمئن، لدرجة تتحول معها المفارقات إلى أمر طبيعي، وفق منطق الجهادي. فكل المآسي التي يصنعها لنفسه ابتلاءات من الله لعباده المخلصين، تصير عذابا في الدنيا قبل الآخرة، متى ابتلي بها الآخر.
لا تفسح متوالية اليقينيات الرائجة، داخل أسواق بيع الوهم، بين أبناء التنظيمات، المجال لأي فرصة أمام إعمال العقل، أو التفكير في الأسئلة التي تراود الفرد بين الفينة والأخرى، كما جاء على لسان المؤلف "كنت حائرا فعلا، كيف سيتحول تدين بإيقاع مسالم يسعى إلى جمع الحسنات من عادات تعبدية يومية، ويتعايش مع تحريمات كثيرة، نحو تدين يريد إحداث توازن مع الولايات المتحدة الأمريكية".
تعج هذه المنظومة بالتناقضات التي تظل عصية على الحصر والتحديد، وليس من المبالغة في شيء القول إنها الأساس المتين لهذه الأيديولوجيا. فالمتطرف على سبيل المثال يرفض الاعتراف بشرعية الأنظمة السياسية القائمة، مبررا ذلك بكون حكامها طغاة ومستبدين، لكنه في الوقت ذاته، لا يتأفف من الوجود في جيوش شيوخ يؤسسون لاستبداد أشد وطأة، كما أن سعي الجهادي الدؤوب وراء إقامة الخلافة كواجب ديني، يبرر بقصد ضمان تحقيق العدل والسلم ووحدة الأمة الإسلامية، دون أن يعترف بأن التطلع نحو إقرارها واقعيا، لن يكون سوى بالانقلاب والفوضى أو المس بالنظام العام... وهلم جرا من التناقضات.
يبقى اعتراف الكاتب، واصفا نفسه، بكونه "صادقا فعلا، لأني جهادي لم ينفذ ما فكر فيه"، مفارقة غريبة وعجيبة. إذ لم يحدث، على الرغم من قناعاته المتطرفة، أن اتفق مع أي جهادي يترجم أفكاره في الواقع، لأن الفعل، في تلك اللحظة، يسلخ المثالية عن الفكرة ويظهر بشاعتها.
رحلة الانتقال القاسية
يرجح أن يكون للمفارقة الأخيرة الأثر البالغ في خيار مغادرة "الدين المتسلط" نحو "الدين الإنساني"، فرحلة الانتقال بأبعادها المادية والنفسية والفكرية كانت قاسية، ولا سيما مع توالي سقوط اليقينيات التي تشد إيمان المتطرف ممزوجة بدموع الألم والحسرة. لحظة فارقة في حياته، يصفها بقوله "أكتب بحسرة عن أفكار كنت أتبناها، وما كنت أحسب أني سأتحسر على تبنيها يوما، أتأمل هذا التقلب وأحذر من السقوط في وثوقية أخرى".
لم تكن معركة التحرر بالأمر الهين مطلقا، لأنها توجب الانتقال من شخص واهم بامتلاك اليقين في كل شيء، إلى شخص آخر معترف بنسبية الحقيقة، في سعي دائم إلى التعلم، دون إغفال ما يستتبع ذلك من تحول في تفسير كل شيء بإقحام الدين كمصدر معرفة شامل أو معيار لتوجيه هذه المعرفة، إلى حصره في نطاق ضيق شديد الخصوصية.
يرى الكاتب أن التراجع عن قرار التطرف ما كان ليحدث لولا الوعي بضرورة التخلي عن الامتياز الوهمي، بكونه كائنا خاصا متفوقا على من حوله بالعقيدة، "لم أكن لأجد مساري الجديد لولا قرار العودة إلى طبيعتي الإنسانية".
يثير الكتاب، في ثنايا السرد، أسئلة جوهرية بشأن قضية المسلحين، فالسجن - من منظور الحسني - قد يمنع المتطرف من الفعل والقتل والتخريب، لكنه قطعا لن ينتزع الفكرة من رأسه، وأحيانا قد يقع النقيض تماما، بجعل الفكرة متحققة بسرعة في الواقع، متى تعرض الجهادي للتعذيب أو الظلم في السجن، فحينها سيصبح لدى الجهادي ثأر شخصي ورغبة متزايدة في الانتقام واستعادة الكرامة.
تحاول فصول السيرة النبش في أربع جبهات بشكل متواز، أولها، شخصية المتطرف التي عملت على إبراز المراحل الثلاث التي تمر بها قصة أي مسلح "الدين الإنساني ثم الدين المتطرف ثم قرار المواجهة"، ثانيها، التنظيمات الأصولية التي كشفت عن بعض خباياها وعتادها في معركة الاستقطاب والتجنيد والمواجهة، وثالثها، سياسة الدولة في مواجهة التنظيمات الأصولية، وآخرها، معضلة تلقي المجتمع للمتطرفين وحملة الفكر المتطرف.