تضخم البنوك والنظام المالي العالمي .. مخاوف من فقاعة ائتمانية
تتعرض البنوك الكبرى في العالم حاليا إلى ما يمكن وصفه بـ"جردة حساب" أو وقفه لتقييم الأداء خلال العام الماضي، عندما كان وباء كورونا يمثل تهديدا - ولا يزال - لحياة ملايين من سكان كوكب الأرض. المؤشرات المتاحة تشير إلى ما يعده بعض الخبراء "تضخم" البنوك الأمريكية والصينية خلال الوباء. بل إن الأشهر الأخيرة من هذا العام شهدت مزيدا من الانتعاش في النشاط المصرفي في أكبر اقتصادين في العالم "الولايات المتحدة والصين" بعد التعافي الملموس في اقتصاد الدولتين.
عندما تفشى الوباء العام الماضي، لم يكن من الواضح مدى قدرة المصارف العالمية على اجتياز تلك الأزمة، ومواجهة ما تتعرض له من ضغوط، حيث إن سياسات الإغلاق الاحترازي التي سادت في معظم دول الكرة الأرضية، أدت إلى إغلاق عديد من القطاعات الاقتصادية الضخمة، وواجهت البنوك والنظام المالي الدولي ككل أخطارا وتحديات تشابه ما تعرضا له في الأزمة المالية العالمية 2008، ولكن مع تراجع حدة الوباء نسبيا على الأقل في الولايات المتحدة والصين، تبين أن الخسارة الائتمانية لم تكن شديدة السوء، وأن الدعم الحكومي عبر الحزم التحفيزية للاقتصاد مكن النظام المالي من مواجهة الصعاب، بل وتحسين وضعه.
جزء من قصة نجاح البنوك الكبرى خلال جائحة كورونا، التي يعدها بعض الخبراء تضخما قد يترك آثار مستقبلية سلبية في النظام المالي الدولي، يعود إلى قدرة المصارف على توزيع قروض الشراكة التي قدمتها الحكومات للشركات الصغيرة، ومهد ذلك الطريق لعودة الانتعاش الاقتصادي، عبر تعزيز الأنشطة التجارية، وأيضا أسهم في زيادة الاحتياطيات المالية البنكية.
البنك الصناعي التجاري الصيني يظل حتى الآن أكبر شركة عامة على وجه الأرض بنحو 4.9 تريليون دولار أمريكي من الأصول، يليه بنك جي بي مورجان تشيس الذي يعد أكبر بنك في الولايات المتحدة. وخارج الولايات المتحدة والصين، يحتل بنك بي إن بي باريبا الفرنسي المرتبة الأولى في قائمة البنوك الأوروبية.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" جورج ميلتون الخبير المصرفي، "خلال العام الماضي كانت إدارة الثروات وأسواق رأس المال من أقوى الأقسام العاملة في البنوك الكبرى في العالم، إذ كان الشغل الشاغل للأثرياء، سواء كانوا أفرادا أو عائلات، الحفاظ على ثرواتهم في ظل الركود الاقتصادي الذي هيمن على الاقتصاد الدولي نتيجة وباء كورونا، وهذا سمح للبنوك الكبرى بتعزيز موقعها".
ويعد جورج ميلتون أنه منذ الربع الثاني من العام الماضي استفادت البنوك من إصدار قروض كبيرة للشركات، ما أدى إلى تحقيق كثير من دخول الرسوم، حيث تمكنت البنوك الكبرى ذات الأعمال عالية الأداء من إدارة نمو القروض، والتصدي للضغط العام على هوامش صافي الفائدة.
على الرغم من أهمية تلك العوامل في تعزيز البنوك الكبرى لموقعها خلال العام الماضي، فإنها استفادت أيضا من الامتيازات الكبيرة التي تتمتع بها في أسواق رأس المال، وتعد حاليا المستفيد الأول من تداول الأوراق المالية والأنشطة المصرفية الاستثمارية، بما في ذلك اكتتاب الديون والأسهم والأوراق المالية.
لكن جزءا من أسباب الانتقادات التي تتعرض لها المصارف العالمية الكبرى خاصة في الولايات المتحدة يعود إلى موجة متسارعة من الاندماجات البنكية، بما لها من تأثير مباشر في المستهلكين، لكن الأكثر خطورة أن هذا السلوك يضعف القدرة التنافسية لدى البنوك الصغيرة، ما يجعل النظام المصرفي ذا طبيعة احتكارية، بما يتضمنه ذلك من أضرار على النظام الاقتصادي ككل.
لا ينكر المصرفيون ظاهرة الاندماجات البنكية، لكنهم يحملون المشرعين المسؤولية عن ذلك. فمنذ 2018 بات على البنك ليحظى بلقب مؤسسة مالية ذات أهمية نظامية، أن تبلغ قيمة أصوله 250 مليار دولار مقابل 50 مليار دولار قبل ذلك، فضلا عن أن البنوك تريد أيضا الاستفادة من مزايا الحجم الكبير عبر خفض التكاليف وتحسين الكفاءة لزيادة الأرباح.
ويلقي البروفيسور مارك واتس نائب رئيس اللجنة المالية لبنك إنجلترا بين 2010 - 2014 الضوء على تلك المشكلة بالتعليق لـ"الاقتصادية" بالقول، "تضخم البنوك يحدث خللا في طبيعة عملها، فعلينا دائما أن نتذكر أن البنوك مؤسسات للإقراض المالي وليس للتجارة، كما أن تضخم البنوك يضعف الشفافية، ويدفعها لإيجاد مشتقات مالية معقدة للغاية لتحقيق الأرباح".
ويضيف "البنوك الكبيرة تتصرف وكأنها صناديق تحوط، وأصبح التداول والمضاربة الجزء الأكبر من أعمالها، كما أن الأحجام الضخمة للمصارف تدفعها تلقائيا إلى الرغبة في تحقيق أرباح شديدة الضخامة تتناسب من قيمة الأصول المملوكة لديها، ونتيجة ذلك تتساهل في عملية الإقراض، حتى إن كان الأفراد أو الشركات غير مؤهلين لذلك، وهذا أحد أسباب تنامي ظاهرة شركات الزومبي. هذا كله يوجد فقاعة ائتمانية يمكن أن تودي باقتصادات الدول المتطورة إلى الهلاك، نتيجة تكرر الأزمات التي يتعرض لها النظام الرأسمالي لديها".
مع هذا فإن بعض الخبراء في مجال الاستشارات الاستثمارية يطالبون بأن يتحلى التعامل مع البنوك الكبرى بالواقعية. ويشيرون في هذا السياق إلى أنه في كل دولة توجد ثلاثة أو أربعة مصارف كبرى يرتكن عليها الاقتصاد المحلي، إضافة بالطبع إلى عدد أكبر من البنوك الصغيرة، إلا أن مكينزمات النشاط الاقتصادي ذاته تؤدي إلى تركيز القوة الاقتصادية في عدد محدود للغاية من المؤسسات الاقتصادية في مقدمتها المصارف.
بالطبع هذا الوضع لا يعد الأمثل، فتعرض تلك البنوك لهجمات سيبرانية قد تكون له آثار اقتصادية مؤلمة للغاية، كما أن التركز النقدي في عدد محدود من المؤسسات البنكية، ربما تكون له تداعيات اجتماعية، لكن في الوقت ذاته فإن المعروض النقدي الضخم نتيجة الودائع البنكية في المصارف الكبرى، يمنح الدولة قدرة أكبر على تسريع وتيرة النمو الاقتصادي.
في هذا السياق، تقول لـ"الاقتصادية" أملي هاموند الخبيرة الاستثمارية في عدد من صناديق التحوط البريطانية، "ستظل البنوك عصب النظام الرأسمالي، وإذا أخذنا في الحسبان أن إجمالي الأصول المتاحة لأكبر ألف مصرف في العالم يبلغ نحو 128 تريليون دولار أمريكي، فسندرك مقدار القوة المالية التي تتمتع بها تلك المؤسسات".
وتضيف "وضمن تلك الشبكة المصرفية القوية التي تمثل المنصة الحقيقية التي يرتكز عليها الاقتصاد الكوني تتربع مجموعة من البنوك الكبرى، التي تضع بشكل أو آخر الإطار العام للنظام البنكي العالمي، تلك المصارف تمثل مضخة حقيقية لعمليات الإقراض الكبرى للشركات العالمية مثل أبل وأمازون وجوجل، التي تتوفر لديها سيولة مالية ضخمة، لكن ربما تفضل لأسباب مالية بحتة أن تقترض من النظام المصرفي، وغالبا ما تكون المبالغ التي تقترضها بمليارات، ومن ثم فهي بحاجة إلى تلك البنوك الكبيرة، فطبيعة التسهيلات المالية التي تمنحها لا تستطيع أن تقدمها المصارف الصغيرة".
ربما تتطلب تلك النظرة الواقعية أن ندرك أن عالما بدون بنوك كبيرة لن يتحقق، وربما كل ما يمكن العمل عليه والمطالبة به، تشذيب نشاط تلك المصارف، وإبعادها عن العدوانية المالية، والحد من قدرتها المطلقة في القضاء على خصومها، لتقوم بالدور المنوط بها باعتبارها رأس حربة لنظام مصرفي أكثر استقرارا وأقدر على الأداء.