واشنطن والشرق الأوسط .. انسحاب تكتيكي أم أبدي؟
تمارس الإدارة الأمريكية جدية كبيرة وغير مسبوقة تجاه الصين، من خلال تضييق الخناق عليها بالعقوبات العسكرية والاقتصادية، كما أنها تضع قطعا عسكرية كبيرة في بحر الصين، في الوقت ذاته تشهد المناطق المحاذية للصين ذات النفوذ الأمريكي وجودا مكثفا لقواتها، لكن هنالك تساؤلا يطرح نفسه بقوة هذه الأيام: هل واشنطن جادة بما يكفي للخروج من الشرق الأوسط كما فعلت مع أفغانستان، وصب اهتماماتها تجاه الصين، وإن كانت جادة في ذلك فما تبعات ذلك الانعكاس على المصالح الأمريكية، في ظل سيطرة مطلقة لرجالات المرشد المتشددين على زمام الأمور في البلاد، حيث شهدت الآونة الأخيرة انتخاب إبراهيم رئيسي رئيسا للبلاد في انتخابات هي الأقل إقبالا في البلاد، بحسب المعارضة الإيرانية؟
تعيش القوات الأمريكية في العراق تهديدا واضحا من قبل الميليشيات المسلحة، التي توجه هجمات صاروخية إلى قواعدها هناك، حيث تعرضت هذه القوات لهجمات عدة بعد مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس السابق برفقة أبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي في غارة أمريكية في بغداد، فيما واجهت إدارة الرئيس بايدن هذه الهجمات بضربات جوية على مراكز للميليشيات على الحدود بين العراق وسورية، إضافة إلى ضربات على معسكرات الحشد داخل العراق، أدت إلى إدانتها من قبل الحكومة العراقية الحالية المدعومة من واشنطن، وإذا استمرت هجمات الميليشيات على القوات الأمريكية فستصل إلى حدود الـ50 هجمة، وهذا في حد ذاته مصدر إحراج للرئيس بايدن، الذي لم يتمكن من تحقيق ما حققه سلفه الديمقراطي دونالد ترمب، الذي رسم معادلة أجبرت طهران على وقف التصعيد بمختلف المستويات سواء بدعم الميليشيات أو على مستوى الملف النووي، من خلال حملة الضغوطات القصوى.
وضع الرئيس بايدن نهاية لما سماه بنفسه "الحرب الأبدية" في أفغانستان، كما سحبت إدارته بطاريات صواريخ "باتريوت" الدفاعية من المنطقة، واتجهت نحو تقليص استعراضات القوة التي كانت تقوم بها ضد إيران باستعمال القاذفات الاستراتيجية من طراز بي 52، فيما تستعد القيادة المركزية للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط لإعادة حاملات الطائرات الأمريكية إلى الولايات المتحدة بعد عقود من انتشارها في الخليج، لكن هذه الإجراءات تتناقض مع ما تقوم به إدارة بايدن التي نفذت خلال ثلاثة أشهر ما قامت به إدارة ترمب خلال 2020 بأكمله، ما يشير إلى ارتباك في السياسات الأمريكية تجاه ملف الانسحاب من الشرق الأوسط.
وتهدف الإدارة الأمريكية إلى الإبقاء على قوة عسكرية صغيرة، تكون ركيزة عملها مكافحة الإرهاب في كل من العراق وسورية، ليكون هذا البديل الأنجع عن الانسحاب الكامل، كما تراه إدارة بايدن، لكن هذا الإجراء سيكون ذا أثر إيجابي في خصوم واشنطن مثل تنظيم داعش الإرهابي، والميليشيات المحسوبة على طهران، لكن الجماعات المدعومة من إيران ستواصل الانتقام من واشنطن بمواصلة استهداف المراكز الأمريكية هناك، ما يضعف الجهود الأمريكية في مكافحة الإرهاب ويزيد من النفوذ الإيراني، بحيث تصبح إدارة بايدن عاجزة عن تحقيق أي تقدم يذكر.
الضربات الجوية الطفيفة أو المحدودة لا تشكل حلا، إنما تقتصر على أنصاف الحلول، وهذا يزيد من حرج واشنطن، التي لا ترغب في التصعيد، في ظل زيادة نفوذ الجماعات الإيرانية المسلحة في كل من العراق وسورية، ولإنهاء هذه السردية الطويلة لا بد من اتخاذ واشنطن قرارا حاسما بتوجيه ضربات قوية وموجعة لهذه الميليشيات لإضعافها، وتهميش دورها، لتقبل على أحد الأمرين إما التفاوض المذل لإيران وهذه الميليشيات على ملفات عدة والرضوخ للإرادة الأمريكية، أو القضاء على هذه الميليشيات، وتمكين الحكومة العراقية عسكريا وأمنيا من السيطرة على زمام الأمور في البلاد، وإنهاء مسلسل تغول الميليشيات على الدولة.
أدت الضربات الجوية الأمريكية في حزيران (يونيو) الماضي إلى مقتل خمسة من أفراد الميليشيات، وخسائر مادية، لكن الضربات النوعية ذات الأثر هي التي تستهدف القيادات، وتجبر طهران على العودة إلى الدائرة الأولى، أما استهداف العناصر غير المهمة فلا يغني ولا يسمن من جوع على مستوى تحقيق الإنجازات، وبتنفيذ ضربات قوية ونوعية ستكون طهران في موقف حرج، ما يدفعها نحو تقديم تنازلات أكبر على مستوى الاتفاق النووي، كما ستجبر قيادات الميليشيات على تقليص دورها الهجومي والاختباء في عباءة الدولة، للحفاظ على مكاسبها المادية، في ظل تحسس القيادات رؤوسهم بأن يكونوا الهدف الأمريكي المقبل.
توجيه واشنطن الرسائل الرادعة المحدودة غير الواضحة والمبهمة لطهران وميليشياتها، يعبر - بحسب مراقبين - عن حالة تردد أمريكية على مستوى اتخاذ القرار، من خلال التأكيد على أهمية عدم التصعيد، والتلويح بانسحاب القوات الأمريكية هناك، ما يعطي دافعا لصناع القرار الميليشياوي لمواصلة ضغوطاتهم على واشنطن للعودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي الجديد، وتقديم تنازلات. ولإعادة الهيبة الأمريكية لا بد من التلميح بتنفيذ حملة تصفية في صفوف قيادات الميليشيات، حيث سبق أن حصل اختفاء شبه كلي بعد مقتل سليماني للقيادات في تلك الفترة.
ومن التصرفات الأكثر تحقيقا للنتائج الإيجابية في الميدان، لجوء واشنطن إلى سياسة عدم تبني الأفعال أو الضربات، وسبق أن نجح هذا النموذج من الضربات، وهذا الأسلوب يعطي واشنطن حزمة خيارات للتعامل مع إيران وميليشياتها، لإخلاء الساحة لها بتنفيذ ضربات كبرى تمكنها من هز أركان الميليشيات وتغيير حساباتها، إضافة إلى عدم السماح لإيران بتحميل المخاطر على الوكلاء، من خلال توجيه رسالة صريحة وواضحة بأن أي هجوم تترتب عليه تكاليف من العقوبات، كما يجب البعث برسائل إلى المؤسسة الأمنية الإيرانية - بشكل منفصل عن المحادثات النووية الجارية في فيينا - مفادها أن الولايات المتحدة سترد على أي تحركات سرية تقوم بها إيران.
التحركات الأمريكية بهذا الأسلوب ستشكل خريطة طريق لسحب قواتها من الشرق الأوسط دون وقوع خسائر في قواتها أو تجرؤ الميليشيات على الرد باستهداف القواعد الأمريكية هناك، فيما تكون هذه الضربات ذات أثر بعيد الأمد يقطع الشك باليقين من عدم تجرؤ أيا كان على المصالح الأمريكية حتى لو انسحبت القوات من هناك، وكذلك تسهيل مهمة الانسحاب من الشرق الأوسط، ليكون الرئيس جو بايدن أول رئيس أمريكي ينفذ انسحابا للقوات الأمريكية من دولتين في فترته الرئاسية الأولى.