أفغانستان .. السيناريو الفيتنامي يتكرر

أفغانستان .. السيناريو الفيتنامي يتكرر
مسلسل من الإخفاقات، راكم فيه الأميركيون الفشل تلو الآخر
أفغانستان .. السيناريو الفيتنامي يتكرر
أكبر خطر يتهدد أفغانستان هو أن تندفع دول الجوار إلى الانخراط في الصراع

قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن، منتصف نيسان (أبريل) الماضي، سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، بالتزامن مع حلول الذكرى 20 لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، واضعا بذلك الحد لأطول حرب في التاريخ الأمريكي الحديث، في انسجام تام مع مقاربته لسياسة الخارجية، حين كان مرشحا للرئاسة، التي تقوم على إنهاء "الحروب الأمريكية"، والاستعاضة عنها بمهمات عسكرية محددة، مع تقديم الدعم لحلفاء واشنطن لمواجهة التنظيمات المتطرفة.
زيادة عن كون القرار تنفيذا لاستراتيجية بايدن الجديدة في السياسة الخارجية، فهو أيضا التزام بمخرجات المفاوضات بين حركة طالبان وإدارة دونالد ترمب، المتوجة باتفاق الدوحة 29 شباط (فبراير) 2020. لكن الخروج المبكر لأمريكا وحلفائها قبل الموعد المحدد تحت جنح الظلام بلا احتفاء ودون أي مراسيم لتأريخ لحظة الرحيل، يوحي بأن الأمر في حقيقته هرب من المستنقع الأفغاني، وليس انسحابا بعد تنفيذ المهمة الموعودة، كما جاء على لسان الرئيس جورج بوش الابن 2001، حين قرر غزو أفغانستان، مبشرا باجتثاث حركة طالبان، وإرساء دعائم نظام ديمقراطي.
حاول بايدن التلطيف من وقع الخروج بالحديث عن تحقيق الهدف من وراء الغزو، ممثلا في "اجتثاث "القاعدة" ومنع الهجمات الإرهابية المستقبلية ضد الولايات المتحدة"، خاصة بعد مقتل أسامة بن لادن رأس تنظيم القاعدة 2011. ورفض في المقابل خطة الرأي القائل بضرورة ربط الانسحاب العسكري بتحقيق شروط موضوعية على الأرض. متسائلا، ما الشروط المطلوب تحقيقها على الأرض لكي نغادر، وكم من الوقت سيمضي حتى تتحقق، هذا إذا كان من الممكن تحقيقها أصلا، وكم هي التكلفة الإضافية في الأرواح والأموال؟ لا أسمع أي إجابات جيدة عن هذه الأسئلة، لذا ينبغي ألا نبقى.

تكلفة عقدين من الحرب

كل مسؤول يقرأ تقارير الوضع في الميدان القادمة من أكثر بقعة جغرافية عزلة وفقرا في العالم، لن يتردد في البحث عن كل السبل الممكنة للرحيل، فما بين 25 تشرين الأول (نوفمبر) 2001 تاريخ سقوط مايك سبان، أول جندي أمريكي يقتل في الحرب الأمريكية الأفغانية أثناء تمرد المعتقلين في قلعة جانجي قرب مدينة مزار الشريف، و2 تموز (يوليو) 2021 لحظة إخلاء قاعدة باجرام الجوية، أكبر منشأة عسكرية أمريكية في أفغانستان، مرور أكثر من مائة ألف جندي أمريكي بوقائع ودماء وضحايا وأرواح وتاريخ.
صحيح أن أفغانستان سقطت في أيدي قوات التحالف في زمن قياسي، دون أي مقاومة تذكر، ودون خسائر آنية، وذلك بالنظر إلى الدور المحوري للطيران في هذه الحرب، إذ شكل درعا وقائية جنبت القوات الأجنبية الاحتكاك المباشر مع التنظيمات المحلية "القاعدة" و"طالبان"...، لكن مجريات المعارك على الأرض أفقدت الأمريكيين طعم الانتصار، مع توالي الهجمات وارتفاع الضحايا والخسائر. فبعد عشرة أعوام من الحرب، أصبح وضع قوات التحالف أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانتصار، فمن سقوط 12 جنديا 2001، إلى 317 في 2009، ليبلغ 496 في 2010.
فقدت القوات الأمريكية بشكل رسمي خلال 20 عاما من الحرب 2442 جنديا و20600 جريح، فيما قتل أزيد من 3800 شخص في صفوف المتعاقدين العاملين في الشركات الأمنية التي تعمل مع الجيش الأمريكي، أما الخسائر في صفوف دول حلف الناتو والدول المتعاونة "40 دولة" فقد وصلت إلى 1144 جنديا.
وبلغت الخسائر البشرية في صفوف المدنيين الأفغان - حسب تقرير جامعة براون الأمريكية المتابعة لهذه الحرب - أزيد من 47240، وقتل 72 صحافيا و444 موظفا دوليا. من جهتها تفيد الحكومة الأفغانية بأنها فقدت ما بين 66 ألفا إلى 69 ألفا من الجنود والقوات الأفغانية الرسمية، فيما وصل عدد اللاجئين الجدد إلى 2٫7 مليون أفغاني، فروا إلى باكستان وإيران، وتعرض أربعة ملايين أفغاني للتشريد داخل الدولة.
بعد هذه الحصيلة الثقيلة، بشريا وماديا، يقرر الأمريكيون وضع حد لأطول حرب، بإخلاء الساحة للقوات الحكومية الأفغانية، بذلك تلتحق أمريكا بقائمة الدول العظمى التي تنكسر أمام قوة الشعب الأفغاني، الذي يأنف حكم الغرباء له مهما كان الثمن، فقد مرغ أنف بريطانيا في الوحل بعد ثلاثة أعوام من الحرب، وأنهك الإمبراطورية السوفياتية بعد عشرة أعوام.

خروج يفتح الباب للمجهول

تجمع التقارير على أن أفغانستان كانت على مدار عقدين من الوجود العسكري والأمني الأمريكي مع مسلسل من الإخفاقات، راكم فيه الأمريكيون الفشل تلو الآخر، على كل الأصعدة السياسية والأمنية والإنسانية. وهذا ما تؤكده التطورات الميدانية المتسارعة التي تشهدها مناطق مختلفة من أفغانستان، بالتزامن مع تنفيذ قرار الانسحاب الأمريكي منها.
فالأخبار القادمة من هناك تفيد بتقدم حركة طالبان نحو العاصمة كابول، بعدما سيطرت على مساحة مهمة من البلاد، مستغلة انشقاق جنود حكوميين، وفرار آخرين عبر الحدود، وأحيانا استسلاما جماعيا، كما توثق ذلك مقاطع مصورة، ما يجعل حديث الرئيس الأمريكي عن نجاح قواته في القضاء على حركة طالبان ثرثرة بلا معنى.
ما سبق يفتح الباب على مصراعيه لفصول من الحرب الأهلية في الدولة، فليس كل الأفغان على قلب رجل واحد تجاه الخلافة التي يمني "الطالبانيون" النفس بتحقيقها، ما يرجح احتمالية ظهور بؤر مقاومة ضد الحركة، لو استطاعت إحكام سيطرتها على الدولة في المستقبل، وأن يشعل فتيل الاقتتال الداخلي بسبب رغبة حركة طالبان في الانتقام من الأفغان الذين وقفوا إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وكل "الخونة" الذين اشتغلوا أو قدموا خدمات للأجانب طيلة الـ20 عاما الماضية.
ويبقى أكبر خطر يتهدد أفغانستان هو أن تندفع دول الجوار إلى الانخراط في الصراع الدائر في الدولة، ليتحول إلى ساحة للحرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية عديدة، فعديد من الدول ستسعى للحصول على موطئ قدم بعد خروج الأمريكيين، فتقوم بتمويل وتسليح وكلاء محليين لها، مستغلة التعددية القبلية والقومية في أفغانستان "البشتون والأوزبك والطاجيك والهزارة والبلوش...".
لا يمكن للصين أن تفرط في أفغانستان، فهي بمنزلة طريق آمن نحو محطة البنزين التي تمثلها إيران، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجية أخيرا، فيما تعد إيران الدولة بمنزلة سوق لتصريف بضائعها، ومصدرا رئيسا للمخدرات المتداولة داخل إيران، وترفع باكستان اهتمامها بأفغانستان حد اعتباره ضمن أمنها القومي، لوجود تداخل قبلي على الحدود الطويلة بين الدولتين، وتسعى إلى منع الهند من تعزيز نفوذها في الدولة، هذه الأخيرة بدورها تعمل على محاصرة باكستان من خلال الحفاظ على نظام حليف في كابول، وقطع الطريق على الممر الصيني نحو إيران، أما روسيا فهي تسعى إلى استعادة نفوذها التاريخي في أفغانستان، ومنع الصين والبقية من التمدد في المنطقة على حسابها.
لا تكرر واشنطن في أفغانستان الخطأ البريطاني ثم السوفياتي فقط، بل تتعداه إلى استنساخ السناريو الفيتنامي، فبعد 20 عاما من الوجود على الأراضي الأفغانية، لم تف أمريكا بأي من وعودها، فلا هي نجحت في القضاء على "طالبان"، ولا هي وفقت في تشييد دولة قوية. كل ما هناك أنها منحت "طالبان" - المصنفة على قوائم الإرهاب في واشنطن - شرعية شعبية أكثر، بعد الجلوس معها على طاولة التفاوض.

الأكثر قراءة