جنوب إفريقيا .. إرث مانديلا في مهب الريح

جنوب إفريقيا .. إرث مانديلا في مهب الريح
اضطرابات اجتماعية لأشخاص محبطين من مستويات عالية من البطالة.
جنوب إفريقيا .. إرث مانديلا في مهب الريح
جنوب إفريقيا التي تعد منارة للمصالحة تنهار الآن.

شهدت جنوب إفريقيا مظاهرات استمرت عدة أسابيع، وذلك بعد يوم واحد من اعتقال الرئيس السابق جاكوب زوما، الذي يقتضي عقوبة حبسية مدتها 15 شهرا، بعد تجاهله دعاوى للتحقيق في قضايا فساد. انطلقت الاحتجاجات من مدينة ديربان معقل قبيلة الزولو التي ينتمي إليها زوما، التي تمثل نحو 30 في المائة من التركيبة السكانية في البلاد، وامتدت في كبرى المحافظات، تحديدا كوازولو ناتال وجوتينج الأكثر كثافة سكانية في الدولة.
سرعان ما تطورت الأحداث إلى أعمال عنف وشغب تخللها نهب ودمار، مدفوعين بالغضب الواسع من الفقر وانعدام المساواة، بعد نحو ثلاثة عقود من نهاية حكم الأقلية البيضاء. حصاد هذه الاضطرابات كان ثقيلا على الصعيد البشري، فقد أودت بحياة نحو 500 شخص، وخلفت آلاف الجرحى، فيما الخسائر المادية لا تزال مؤقتة، فمدينة ديربان وحدها - حيث أكبر ميناء للشحن في إفريقيا - فقدت 1,4 مليار دولار، بينما يرتفع الرقم بالنسبة إلى عموم اقتصاد جنوب إفريقيا لزهاء 15 مليار دولار، علاوة على وجود عشرات الآلاف من الوظائف في خطر، بعد تعليق حركة النقل العام، ما حد من قدرة العمال على الوصول إلى أماكن عملهم. وانخفضت قيمة العملة المحلية بما يصل إلى 3,4 في المائة، مسجلة أدنى مستوى لها في أكثر من ثلاثة أشهر.

ما وراء انتفاضة يوليو

حتى وقت قريب، تعد جنوب إفريقيا واحدة من الدول الإفريقية القليلة التي لم تشهد انقلابا على الحكم، بفضل وفاء الجميع لروح دستور مانديلا "1996"، أكثر الدساتير تقدما في العالم، "نحن، شعب جنوب إفريقيا، إدراكا منا للظلم الذي تعرضنا له في الماضي، نكرم أولئك الذين عانوا من أجل نشر العدل والحرية في أرضنا، ونحترم أولئك الذين عملوا من أجل بناء دولتنا وتنميتها، ونؤمن بأن جنوب إفريقيا ملك لكل من يعيشون فيها، المتحدين رغم تنوعهم". ما جعل قواعده محل احترام الجميع، حيث تجرى بشكل دوري انتخابات حرة ونزيهة، حولت الدولة إلى قوة مؤثرة في المنطقة، وواحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا في القارة السمراء.
تتحفظ حكومة جنوب إفريقيا على وصف ما جرى في الدولة بالانتفاضة الشعبية، مؤكدة وجود أياد خفية أوقدت فتيل هذا الأزمة غير المسبوقة في تاريخ الدولة منذ 1994. وجاء ذلك في خطاب للأمة أدلى به الرئيس سيريل رامافوزا، معتبرا ما يحدث ليس ثورة اجتماعية عفوية، إنما أعمال شغب بخلفيات سياسية، "هناك من يقف وراء الأحداث، استغلوا سياق المظالم السياسية، وسعوا إلى استفزاز نشوب تمرد شعبي، حاولوا استغلال الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها كثير من أبناء جنوب إفريقيا".
ربط المسؤولون "الفوضى المنسقة" التي شهدتها جنوب إفريقيا بحدث اعتقال جاكوب زوما، الرئيس الرابع من حزب نيلسون مانديلا "المؤتمر الوطني الإفريقي"، الذي حكم الدولة لنحو عقد من الزمن "2009 - 2018"، وشغل قبل ذلك منصب نائب الرئيس تابو إيمبيكي، خليفة مانديلا في الحكم. فقد عمد أنصاره، وفق الرواية الرسمية، إلى تحويل الاحتجاج على اعتقاله إلى اضطرابات اجتماعية لأشخاص محبطين من مستويات عالية من البطالة، في واحد من أكثر المجتمعات غير المتكافئة في العالم.
وتحدث وزراء في الحكومة إلى دلائل على ما سموه "التخريب الاقتصادي" من قبل "العناصر الشريرة"، في إشارة إلى مؤيدي الرئيس السابق. واستند هؤلاء إلى الخطاب التحريضي لأنصار زوما، فعلى سبيل المثال حذر ابنه إدوارد من أن دماء ستكون على الأرض إذا نقل والده إلى السجن.
تتفاوت الروايات ما بين التي تعتبر الاضطرابات في جنوب إفريقيا نتاجا رئيسا لحملة سياسية قام بها أنصار زوما في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وداخل دواليب الدولة التي يحكمون السيطرة عليها لتقويض إصلاحات الرئيس الحالي سيريل رامافوزا، وبين من يرى فيها احتجاجا مدنيا عفويا يعززه ارتفاع حدة التفاوت الطبقي داخل المجتمع.

أزمة حزب لا مشكلة اجتماعية

تجدر الإشارة إلى أن أحدث التقارير تفيد بأن نصف السكان تقريبا يعيشون تحت خط الفقر، أي نحو 30 مليونا من أصل 60 مليون نسمة، في واحدة من أغنى دول إفريقيا وأكثرها تنمية، فهي العضو الإفريقي الوحيد في مجموعة العشرين، وصاحبة ثاني أقوى اقتصاد في القارة السمراء. لكن ذلك لم يحل دون تسجيل معدلات قياسية في نسب البطالة، فقد بلغت في صفوف الذين تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما 63 في المائة، فيما بلغت النسبة 32 في المائة في الربع الأول من 2021.
وزادت جائحة فيروس كورونا من حجم الهوة بين الأغنياء والفقراء، في دولة كانت بالفعل من بين أكثر الدول تفاوتا في العالم قبل الوباء، بسبب تغلغل الفساد "سرقة المواد العامة" بشكل منظم في بنية الدولة، ما شكل شبكة من المنتفعين داخل الحزب الحاكم ومن حوله، وأفرزت واقعيا مجتمعين شبه منفصلين في جنوب إفريقيا، الأول يحاكي الغرب والآخر نموذج حقيقي للدولة الفقيرة، ويظهر في الأحياء الشعبية التي تنقصها الخدمات العامة.
أيا تكن الرواية الأصح بشأن دواعي الأزمة في جنوب القارة السمراء، تبقى مسؤولية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم قائمة في كل الحالات. فحزب مانديلا أسس قواعد الديمقراطية في الدولة، وظل في السلطة طيلة 27 عاما، دافع خلالها عن آمال وأحلام ملايين المواطنين، بنهج سياسة التشجيع على الارتقاء بالنخبة السوداء، قبل أن يرتد الأمر إلى النقيض، بعدما تغيرت المعادلة التي كانت تحكم سياسات الحزب، خلال رئاسة زوما، فأصبحت مناصب الدولة هي السبيل الرئيسة للفرص والإثراء.
هكذا أصبح الحزب مصدر انقسام كبير، حيث تدور معركة مدمرة بين قيادته، حولت الدولة بأسرها إلى ساحة لتلك المعركة، فقيادة الحزب الحالية تسعى جاهدة إلى القطيعة مع إرث الرئيس السابق، بطرح ملفات الفساد التي شابت فترة حكمه على المكشوف، فالحديث في وسائل الإعلام عن توجيه اتهامات مباشرة لزوما بالتورط في فساد كلف البلاد خسائر تقارب 35 مليار دولار، ثم تغيير اللوائح للسماح لوكالات إنفاذ القانون باستخدام الأدلة المقدمة إلى لجنة الاستيلاء على أموال الدولة، ما يسهل توجيه اتهامات ضد كل الضالعين في قضايا الفساد.
لذا على الرئيس الحالي مواصلة برنامج الإصلاحات، وتعزيز ثقة الجمهور بسيادة القانون ودعم المؤسسات الرئيسة، وإظهار سيطرته على مفاصل الدولة، بإحداث تغييرات وزارية مستندا إلى معيار الكفاءة بدل الولاء السياسي. فالحزب هنا، وبدل تزكية قواعد الديمقراطية، تحول إلى مقوض لها داخل هياكل وأجهزة الدولة.
يبدو أن الرئيس رامافوزا يحاول جاهدا بدء صفحة جديدة في تاريخ الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، لكن قبل ذلك عليه أن يعي جيدا الدرس المستقى من أحداث تموز (يوليو) التي كشفت الوجه الآخر لديمقراطية جنوب إفريقيا، وبينت مآلات إرث قاهر نظام التمييز العنصري الزعيم نيلسون مانديلا. فجنوب إفريقيا التي تعد منارة للمصالحة تنهار الآن، فما جرى في كشف حقيقة قاتمة أظهر العفن العميق الذي يعشش في النظام الاجتماعي والسياسي للبلاد، المقرون بالتوتر العنصري وانعدام الثقة بين طوائف المجتمع والظلم والفساد الذي تمت شرعنته من خلال مؤسسة "الحزب" التي ابتدعها الإنسان للقطيعة معه لا تزكيته.

الأكثر قراءة