واشنطن تظهر براعةً أقل في توقع العواقب المحتملة لأفعالها
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حربا مفتوحة قبل نحو عقدين من الزمن في دولة لا تملك معظم مقومات الدولة الحديثة، سواء على مستوى مؤسسات فاعلة أو الطبقة الوسطى أو الهوية الوطنية الجامعة لكل المكونات الشعبية، دون فهم واقعي للتناقضات التي كانت ولا تزال تعصف بأفغانستان، وكيفية ردع التدخل الأناني والمؤذي لبعض جيران أفغانستان، لكن استندت الحكمة الأساسية وراء قرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إنهاء الانخراط العسكري الأمريكي في أفغانستان إلى افتراض امتلاك الولايات المتحدة قدرة محدودة على تغيير المعادلات السياسية الرئيسة في البلاد، يكون القرار المبني على عجز الولايات المتحدة بأنها لا تستطيع تغيير الجوانب السلبية في حوكمة البلاد - على مستويات الأمن والقدرات والشرعية - من الأفضل إنفاق الموارد العسكرية والمالية والدبلوماسية الأمريكية على قضايا أخرى أكثر نفعا لواشنطن.
لطالما اعتقد الرئيس بايدن منذ الأيام التي كان فيها نائبا للرئيس في عهد إدارة الرئيس أوباما أن البنتاجون لن يعترف أبدا بالفشل، وسيستمر في المطالبة بمزيد من القوات أو الوجود الدائم في أفغانستان، بذريعة إظهار التصميم والالتزام، وعندما كان يتولى بايدن منصب نائب الرئيس الأمريكي، لم يستطع إقناع جنرالات الجيش الأمريكي وروبرت جيتس وزير الدفاع آنذاك، بأن حربا برية أمريكية ضد عدو محلي من غير المرجح أن تنجح، وأن تأجيل خروج القوات الأمريكية من أجل إظهار تصميم الولايات المتحدة أو التزامها تجاه حلفائها هو في نهاية المطاف ممارسة غير مجدية، لن تنتهي إلا بإضعاف النفوذ الأمريكي الإقليمي أو العالمي.
من وجهة نظر الرئيس بايدن، التي يشاركه فيها الرئيس السابق أوباما، كما في مذكراته الأخيرة، فإن التجربة الأمريكية في أفغانستان تؤكد طبيعة القوة العسكرية الأمريكية ومحدداتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستخدام الفاعل للقوات البرية، وكما هي الحال في جميع القرارات، لكن تشكل الالتزامات الأمريكية طويلة المدى في الدول التي تقيم فيها، وفق ذرائع مختلفة، الاستثناء لا القاعدة في السلوك الأمريكي عموما، فسبق أن انسحبت واشنطن مرارا وتكرارا من النزاعات في الشرق الأوسط، متخلية عن السكان المحليين الذين يعتمدون عليها، والذين ساندوها ووقفوا بجانبها عندما قدمت إليهم لتحميهم أو لتحقق مصالحها هناك، مثلما حصل مع الأكراد في شمال شرق الفرات، حين تركتهم وحدهم أمام خصومهم.
الطارئ الجديد في المعادلة أن واشنطن لم تغادر وحدها، حيث أجلت نحو 114 ألف أفغاني خلال أسبوعين، تاركة خلفها ملايين الأفغان تحت حكم طالبان، منهم مئات الآلاف ممن أيدوا الوجود الأمريكي هناك، وحاربوا طالبان وحدهم أملا في الحرية والديمقراطية، لكن عبثا أن تعول الشعوب على واشنطن، في حين إن موسكو تقدم الغالي والنفيس لتدافع عن تحالفاتها، خصوصا تلك التي في دمشق.
أظهرت استطلاعات الرأي أن أكثرية الأمريكيين لا تزال على موقفها المؤيد لإنهاء الحرب، لكن استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت أيضا أن طريقة تنفيذ الانسحاب، وما شاب عملية إجلاء الرعايا الأمريكيين والأجانب والحلفاء الأفغان من أعمال عنف وفوضى في محيط مطار كابول، تعرضت لانتقادات شعبية واسعة، وجاء في استطلاع لمركز بيو للأبحاث، نشر أخيرا، أن 54 في المائة من الأمريكيين رأوا أن قرار سحب القوات من أفغانستان كان صائبا، بينما رأى 42 في المائة منهم أنه كان خاطئا، لكن 27 في المائة فقط وصفوا معالجة بايدن للوضع الأفغاني بالممتازة أو الجيدة، بينما عدها 29 في المائة منصفة بعض الشيء، ووصفها 42 في المائة بالسيئة.
تتمسك المملكة المتحدة بأستراليا، وتعدها جزءا لا يتجزأ من أراضيها، وأي شيء يمسها يمس السيادة البريطانية العظمى، وكذلك الحال مع صربيا وروسيا، وفي المعجم السياسي تعد إسرائيل جزءا من الولايات المتحدة الأمريكية، إذ اعتادت المنظومة السياسية الأمريكية، عدها جزءا من الولايات المتحدة أو على الأقل اعتبارها تتماهى معها بشكل وثيق للغاية على مستوى الثقافة والمجتمع والقيم، ما أدى إلى اعتبار أعداء إسرائيل ومنتقديها تلقائيا أعداء لواشنطن. لكن يبدو أن هذه النظرة تتبدل تدريجيا في أوساط الأمريكيين الليبراليين، وخير مثال على ذلك حالة شبه الحياد الأمريكية على مستوى الأفعال في النزاعات الأخيرة مع الفلسطينيين، كما تعد أحد جوانب استراتيجية فك الارتباط الأمريكي في الشرق الأوسط في العلاقة المشحونة مع الإسلام، بمعنى أن ثمة شرخا ثقافيا بين أمريكا والعالم الإسلامي، نتيجة لهذه العلاقة، حتى إن اقتصر الأمر على التراجع عن انخراطها المكثف هناك.
شكلت تغريدة الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء توقيع الهدنة الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين خيبة أمل لليمين الأمريكي، التي قال فيها "الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء يستحقون أن يعيشوا في أمن وأمان، وأن ينعموا بدرجات متساوية من الحرية والازدهار والديمقراطية"، كما تعهد بايدن بمواصلة "إدارتي دبلوماسيتنا الهادئة الراسخة لتحقيق هذه الغاية"، ما أعاد إلى العلن حل الدولتين، وأزال الغبار عنه، لكن ليس هذا المراد، فالخطر الإيراني يهدد مصالح واشنطن صراحة في مناطق نفوذ النظام الإيراني، ما يعني أننا مقبلون على فصل جديد من التحالفات، إسرائيل كانت تتعامل على أنها استثناء، ولم تضع بيضها في السلة الأمريكية وحدها، لتصبح الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا وثالث أكبر شريك تجارى في العالم، حيث يصل حجم التجارة معها إلى 11 مليار دولار، ما يعني شراكة استراتيجية واسعة، تقلل من الاعتماد المطلق على الأمريكيين.
بالعودة إلى الالتزامات الأمريكية، فكثيرا ما تعيش الدول اليوم أزمات بسبب سياسات الانسحاب الأمريكي، حتى إن واشنطن نفسها كانت عرضة لسياساتها الخاطئة جراء الانسحاب، حيث تعرضت لهجمات إرهابية في 2001، فقد دفع الانسحاب من بيروت كثيرا من خصوم أمريكا، ومن بينهم أسامة بن لادن، إلى الاعتقاد أنها تعاني نقطة ضعف أساسية، وأتاح لإيران وسورية استخدام لبنان كقاعدة للوقوف في وجه المصالح الإقليمية لواشنطن وحلفائها، كما سبب قرار السماح لصدام حسين بالبقاء في السلطة والقضاء على أعدائه مشكلات لإدارة الرئيس كلينتون حينها، ما دفع إدارة جورج بوش الابن لاحقا إلى غزو البلاد والإطاحة بالرئيس العراقي، حتى إن الصحافة الأمريكية آنذاك وصفت ما جرى "بالكارثة التامة"، إضافة إلى ذلك عدم اهتمام واشنطن بشؤون أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي سمح لأسامة بن لادن باستخدام البلاد كقاعدة لشن هجمات مدمرة على الولايات المتحدة.
قد يتمتع الأمريكيون بالمهارة اللازمة لاحتساب التكاليف والمكاسب الفورية، لكنهم أقل براعة في توقع العواقب المحتملة لأفعالهم في المستقبل، فيبقى خارج المعادلة مصير الأشخاص الذين يضعون ثقتهم في أمريكا، وهذه مسألة تستحق النظر إليها من كثب، ففيما يزداد عدد الأشخاص المتضررين من القرارات الأمريكية، ويواصل الأمريكيون تبرير أفعالهم في إطار التفوق الأخلاقي الباهر، قد تواجه واشنطن صعوبة أكبر في العثور على حلفاء مخلصين.